هناك تراث هائل في الجزائر بصمته أيادي وعقول ونخب تركية في كل المجالات

صحفي وشاعر جزائري. عمل محررًا ومسؤولًا عن الشؤون الثقافية في العديد من الصحف المحلية والعالمية وألف 4 كتب.

أن عار الإستعمار الذي عصف بالجزائر لم يكن فقط عار أنبسط على الأرض بل تغلغل وتجذر بعمق وحاول السيطرة عالى الذات وطمس الهوية غير أن المقاومات المادية

الجزائر الآن أكبر من أن تستوعبه نظرة ماكرون لأنه لا يلعب إلا مع السلطة أو مع بضع رجال في النظام

وما تلك الخطوات الرمزية كما أطلقت عليها للإعتراف بالمحامي علي بومنجل وموريس أودان إلا قشة في رمال متحركة اسمه الذاكرة الجريحة للشعب الجزائري   

نحن بحاجة إلى الكثير من الضوء لإخراج تراثنا المشترك من الظلال والظلام والصناديق المغلقة


لقد مر ما يقرب من 70 عامًا منذ أن أنهت الجزائر مستعمرتها الفرنسية التي استمرت 132 عامًا وبدأت نضالها من أجل الإستقلال.. لقد تأثرنا جميعًا بهذه المقاومة ضد الاستعمار التي فقد فيها 1.5 مليون جزائري حياتهم. قرأنا كتبا عن المقاومة وشاهدنا الأفلام. كيف تستمر المقاومة الجزائرية في التأثير على الشعب الجزائري اليوم؟

كل على طريقته، وكل له أسلوبه في التعاطي مع هذا التأثير في وجدانه.. الجراحات التي خلفها الإستعمار الفرنسي دوامت على الحضور واستمرت وستسمر وكأنها تحدث كل يوم وكل دقيقة وكل لحظة.. ليس من السهل نسيان ما فعلته فرنسا في هذا الشعب بغض النظر عما تركته هنا من عمران وثقافة وأساليب حياة.. ولكن الإستعمار يبقى إستعمار مهما كانت ألوانه.

عندما تسألي أي جزائري اليوم خاصة من الأجيال الجديدة أجيال الوسائط والتحولات، ستدركين حجم مفهومهم للإستعمار وما مرّ بهذا البلد خلال تلك الحقبة أفكار ومشاعر وأسئلة ومواقف ورؤى وتطلعات، ضفي إلى ندرة العائلات الجزائرية التي ليس ببيتها شهيد أو مجاهد.. كل هذه المعاني ستقف للبرهنة على قوة التأثير الذي تدوام على الحضور كلما تقترب الجزائر من كل المناسبات التي تستذكر فيها تلك الفترة وما بعدها.

أن عار الإستعمار الذي عصف بالجزائر لم يكن فقط عار أنبسط على الأرض بل تغلغل وتجذر بعمق وحاول السيطرة عالى الذات وطمس الهوية غير أن المقاومات المادية والمعنوية التي جوبه بها لم تكن سهلة أو يسيرة ولم تكن وليدة الصدف والضرورات فقط بل كانت كالفطرة ولدت مع كل النفوس الجزائرية، لذلك أشتدت على المستعمر الأوقات والأزمنة والظروف التي عاش فيها هنا وكان إطمئنانه مؤقت وقلق ومربك لأنه يعرف أن في كل بيت وزواية وشارع ومكان هناك عيون لا تنام.. رجال ونساء تربوا على رفضه ومقاومته منتفضون ضده إلى الأبد أما الموت أو الإنتصار.

عندما يفكر معظمنا في الثورة الجزائرية، فإن أول ما يتبادر إلى الذهن هو فرانز فانون. ما هو برأيك السبب الأكثر أهمية الذي جعل وجهات نظر فرانز فانون عالمية جدًا ووصلت إلى ملايين الأشخاص؟

وما كان لفرانز فانون أن يكتب أو يتفاعل أو يفكك ظاهرة الإستعمار وتصل كل نظرياته في هذا المجال لولا إحتكاكها المباشر مع عمق المجتمع الجزائري وهامشه وأطرافه البعيدة، تلمسها في عيون من كان يتواصل معهم سواء من الثوار الكبار أو حتى من المواطنين البسطاء، رأى الظلم والقهر والنبذ في كل مكان من الجزائر، وربما كانت قوته أيضا في أنه أسود وهو ما يحيلنا إلى الصراع ضد العنصرية التي سادت منذ القدم وعانى منها السود في كل أنحاء المعمورة، وهي تمثلات تسربت في نفسيات من واجهوا هذه القسوة من البيض، وأعتقد جازما أن فرانز فانون استمد قوته من هذا التراكم والإرث وبنى عليه مواقفه وأمتزجت بما رأه ووقف عليه أثناء الثورة الجزائرية وجعل منها رمز مضاف إلى كل الرموز التي أتخذت من النضال ضد التميز والإستعمار والظلم مهما كان نوعه الطريق والسبيل للتحرر والفكاك من قيود الخوف والرعب الذي أعتقد المستعمر أنه سيبقى وسيستمر للأبد.. من هنا صعد فرانز فانون على بوديوم العالمية وفتح للثورة الجزائرية مع غيره من النخب والمفكرين الأحرار الأبواب والنوافذ وتردد صداها في مسامع الأمم والشعوب الطامحة للحرية والإستقلال. 

ما رأيك وراء اتخاذ فرنسا بعض الخطوات "الرمزية"، مثل الاعتراف بأن المحامي الفرنسي علي بومنجل أحد رموز المقاومة الجزائرية، وموريس أودان الذي دعم المقاومة، قد تعرض للتعذيب حتى الموت على يد الجيش الفرنسي؟

كل خطوة نحو الإعتراف بالذنب مهما كان قاسيا أو صعبا أو جريحا، فهي أسلم وأريح للنفوس المكلومة خاصة للأقارب والأهل والعائلة وللوطن.. وما تلك الخطوات الرمزية كما أطلقت عليها للإعتراف بالمحامي علي بومنجل وموريس أودان إلا قشة في رمال متحركة اسمه الذاكرة الجريحة للشعب الجزائري.. الذاكرة التي لم تسلم من المزايدات التي رافقت طوال عهود سياسات البلدين عندما يتطرق القادة إلى هذا الملف.. حيث كما يتم دوما القول أنها خضعت إلى تجاذبات وصراعات حسب الظرف والمصلحة وحتى التلاعب بالأسرار والخفايا التي يقال أنها لو كشفت لأضرت بالكثير من الأمور والوقائع والأحداث وحتى بالأشخاص.. جاء الإعتراف حسب إعتقادي متأخرا لأنه أعطى إنطباعا أن من يقف وراءه مجرد إنسان خال من الأخلاق والقيم الحضارية وحتى الإنسانية وأنه لا يقيم وزنا للحرقة والألم الذي يسببه للأهل أولا لتلك الأم أو الأب أو الأخ أو الإبن أو اي فرد من العائلة.. لا يعيش تلك المعاناة المضنية التي تمر في ليلهم.. ما معنى أن تكون رئيسا أو مسؤولا كبيرا وقريب من الحدث أو ملم بالتفاصيل ولكنك تحجم على الإقدام والجرأة وتكشف عن الوقائع لأنك خاضع لجماعات الضغط والمصالح الضيقة والمتعصبة.. ولكن هذا هو الإستعمار على كل حال.. وجه بشع ومقرف وبلا رحمة أو أخلاق أو عاطفة.

في إعتقادي لا يكفي الإعتراف ما لم تتبعه بخطوات أكثر ناجعة وحقيقية، وشجاعة، لأن مواجهة أية ذاكرة خاصة الذاكرة الجريحة هي في نهاية المطاف مواجهة مع النفوس والأذهان والألام التي يجب أن ترمم ببطء لا تنسى أو تطوى صحائفها بل تبقة محفورة ومنقوشة على أعتاب الأوطان لتكون عبرة ومثال لما يمكن أن يصل إليه الإنسان عندما يدمر أخيه الإنسان.

منذ عام 2019 ، تحاول الجزائر وضع قضية "الذاكرة الوطنية" على أساس أوسع، بدءًا من 1830، بدلاً من حصرها في سنوات الثورة (1954-1962)، حيث تم التضحية بـ 1.5 مليون ضحية. عندما نفكر في الأمر بهذه الطريقة، كم بالضبط عدد ضحايا الاستعمار الذين ماتوا في الجزائر؟

العبرة في ظني ليست بالأرقام، لأن من كان يتحكم في البلاد ألا وهي فرنسا يمكنها أن تعيطك أي رقم، بعكس الجزائر التي لم يكن لها آنذاك جهاز يحصي عدد الذين استشهدوا.. قتل أي فرد بدون وجه حق هو جريمة كبرى وعظيمة، فما بالك بالألاف أو أكثر الذين قضوا أثناء الإستعمار بعضهم حتى قتلوا ظلما وعدوانا ولم يكن لهم أي ذنب وهو ما حدث بالفعل، إلى جانب الذين استشهدوا دفاعا عن البلاد وهو حق مشروع وواجب لأنك تواجه مستعمر يسلبك الأرض والعرض والمال والهوية.

ومثلما يؤكد الكثير من المهتمين فإن العدد لربما فاق هذا الرقم، ولا تنسي أن الإستعمار الفرنسي أستوطن هذه البلاد لمدة تزيد من قرن ونصف بما يعني هلاك بشر كثير على يد فرنسا، اقتلعوا من أرضهم وديارهم ونسفوا وذبحوا وإغتيلوا وهناك صور فاضحة تكشف عن حجم الحقد والضغينة التي مارسها المستعمر ضد قرى بكاملها عبر كافة أنحاء البلاد.

فاطمة نسومر. أنا معجب بمقاتلة جزائرية. لسوء الحظ، فهي غير معروفة في كل من تركيا والعالم. هل يمكن أن تخبرنا قليلاً عن فاطمة نسومر؟.

لاله فاطمة نسومر.. إمرأة عجيبة وأسطورية، من الأحرار، أمازيغية قحة، ومواطنة جزائرية أصيلة.. سكنت وعي الجزائريين كواحدة من رموز المقاومة والجهاد، أرعبت المستعمر وجعلته ينظر إليها بإحترام وتقدير حت تمكن منها وأسرها وتوفيت بعدما مرض عضال في سن 33، وبالعودة إلى حياتها تقول العديد من المراجع والمصادر أنها ولدت في قرية قرب عين الحمام في منطقة القبائل عام 1830، وهو العام الذي سقطت فيه الجزائر فريسة للاستعمار الفرنسي، واسمها هو فاطمة سيد أحمد، وحملت اسم نسومر نسبة إلى قريتها. وكان والدها على رأس المدرسة القرآنية في القرية، وفي طفولتها، حفظت القرآن.

تزوّجت في صباها، لكن زواجها لم يوفق فعادت إلى أهلها وقد رفض زوجها تطليقها، فبقيت تحت عصمته، الأمر الذي جعلها ترفض زيجات مهمة لاحقا. واشتهرت في منطقة القبائل في ذلك الوقت بزهدها وحكمتها وذكاءها.

وكانت فاطمة نسومر في الـ 16 من عمرها عندما احتل الفرنسيون منطقة القبائل، لكن الانتفاضة التي قادتها ضد الاستعمار تظل من أهم معالم المقاومة في الجزائر بفضل شجاعتها ونبلها، وقد أطلق عليها الفرنسيون لقب "جان دارك جرجرة" (نسبة لجبال جرجرة في المنطقة)، وهو تشبيه رفضته لالا فاطمة مفضلة حمل لقب "خولة جرجرة" نسبة للصحابية خولة بنت الأزور التي قاتلت تحت إمرة الصحابي خالد بن الوليد.

قادت أول معاركها سنة 1854، ضد الفرنسيين في وادي سيباو، وكانت في الـ 24 من عمرها، وتقول الرواية إن القوات الفرنسية كانت على وشك إنزال الهزيمة بقائد المقاومة محمد الأمجد بن عبد الملك المعروف ببوبغلة، حتى تدخلت فاطمة واندفعت ببسالة صوب الفرنسيين، فتجمع الجزائريون وراءها وهزموا الجيش الفرنسي.

ولم يقبل قائد الجيش الفرنسي الجنرال راندون الهزيمة، فاحتل عزازقة التي شهدت قمعا على يد قواته، فحشدت لالا فاطمة أهالي المنطقة ودعت للجهاد والدفاع عن الأرض والحرية، فكانت معركة تاشكريت في يوليو/ تموز عام 1854 التي هُزم فيها الفرنسيون وتكبدوا 800 قتيل من بينهم 56 ضابطا فضلا عن 371 جريح.

وعلى أثر ذلك، دعا راندون إلى وقف إطلاق النار الذي قبلته فاطمة نسومر التي أرادت أن تستغل هذه الفرصة لتعزيز دفاعاتها، لكن هذه الهدنة كانت مثل نظيرتها التي كان الفرنسيون يبرمونها غير أنها ما تلبث أن تنقض من طرفهم، فبعد ثلاث سنوات عادوا للهجوم مجددا، وحشدوا قوات كثيفة هزمتها أخيرا، وتم أسرها ومصادرة ممتلكاتها وتدمير مكتبتها، وكان للهزيمة دورها الكبير في تدهور حالتها الصحية، فتوفيت في الأسر وهي في الثالثة والثلاثين من عمرها.

نعلم تأثير بربروس خير الدين باشا على الشعب الجزائري. يحيينا تمثال بربروس خير الدين باشا عند مدخل المتحف الوطني الجزائري. نعلم أن الأمير عبد القادر، أحد رواد المقاومة الجزائرية، بقي أيضًا في بورصة لفترة. هل يمكننا إعادة سرد قصتنا من خلال مثل هذه الشخصيات المشتركة، التي تعتبر ذات قيمة كبيرة لكل من الشعبين الجزائري والتركي؟

لا يجب فقط الوقوف وسرد قصص هؤلاء والإكتفاء بإحياءها ضمن مناسبات عابرة ومحددة، بل يجب أن تنجز الكثير من المشاريع والأفكار حولهم، والعمل بإستمرار على وضع سيرهم في متناول الجميع خاصة من الأجيال الناشئة التي هي بإمس الحاجة إلى الرموز والعلامات التي صنعت التاريخ والذاكرة وشقت المجاهيل والمصاعب وبنت ما يمكن أن يغذي االروح والعقل خاصة وأن الفراغ والغزاوت الكثيرة التي تمتد داخل المجتمعات المشككة في هؤلاء تنفذ بشكل رهيب ضمن مخططات كبرى تصرف عليها الملايين لمسخها والعمل على محوها.. لذلك وجب أن تتكاتف الجهود والنوايا من أجل الرفع من مستوى البحث والتقصي وكتابة وإنجاز أفلام ومسلسلات وإقامة شراكات بين الطرفين والسعي إلى تبني إستراتيجيات ناجعة ومثمرة من أجل أن يتحول هؤلاء العظماء ليس فقط إلى تماثيل بل إلى إيقونات ومصابيح تضيء الليالي المدلهمة والهجمات التي تدار بحنكة ودهاء ضدنا وضد مقوماتنا الحضارية، من هنا يجب تكثيف الدعوات والنداءات لفتح جسور الحوارات والنقاشات لإيجاد الطرق والأساليب والإمكانيات لإبراز ما قدمه هؤلاء للبلدين.  

واجه الرئيس الفرنسي ماكرون، خلال زيارته الأخيرة، رد فعل الشعب الجزائري. ما هو السبب الرئيسي لرد الفعل هذا؟

أعتقد أن ماكرون جاء بعقلية إستعمارية لم يتخلص منها في عمقه، صحيح الظاهر أنه مختلف أو يوحي أنه كذلك ولكني أشك في النية أن تكون صادقة والتي يرويج لها من خلال لوبيات وعصب تستفيد من فرنسا بشكل أو بآخر.. لا أعرف كيف هو شعور أبناء الشهداء أو كبار المجاهدين الذين ما زالوا على قيد الحياة عندما رأوا سحنته في الجزائر مؤخرا.. ولكن عندي إحساس أن هناك شيء ما غلط في هذه الزيارة التي أختصر فيها الجزائر في بضع رواد شركات صغيرة أو في روائي واحد أو في أستديو تسجيل مشهور.. الجزائر الآن أكبر من أن تستوعبه نظرة ماكرون لأنه لا يلعب إلا مع السلطة أو مع بضع رجال في النظام.. هو لا يعرف العمق أو المناطق الغائبة عن مساحة عينيه، لذلك فإن أهم ما أخذه من الزيارة هو السراب المؤقت.. لن يتم إصلاح أعطاب العلاقات مع فرنسا دون فك الإرتباط بمراكز نفوذ البلدين.. وإن أرادت الجزائر الخروج من عنق هذا الحنين الغامض لفرنسا ما عليها سوى تنويع علاقاتها مع قوى أكبر وأهم وبناء تاريخ مشترك معها جديد خاصة وأن التحولات العالمية السريعة يمكنها أن تبتلع الكيانات الضعيف بسهولة ويسر، ما لم تستبق وتقيم تحالفات تتأسس على المصالح التي تحمي وليست المصالح التي تنهش وتنخر وتبقي على الوضع في مستوى الصفر.

حملت الزيارة في عمقها بذور الخسارات أكثر منها زهور النجاحات وهذا ليس رأي فقط بل رأي حتى ملاحظين وساسة من فرنسا.. لذلك في إعتقادي ليس هناك ما يبهر في الزيارة والكثير من المسائل بقيت معلقة خاصة تلك التي تخص الذاكرة والإعتراف وهو ما لم يقدر أن يسير فيه ماكرون قيد أنملة.  

إذا كانت هناك رسالة تريد إرسالها إلى الشعب التركي، فسيسعدنا أن ننقلها.

دعونا نكتب تاريخنا المشترك مع بعضنا بعيدا عن المزيدات والمغالطات والمبالغات والتعصب، نشترك في الكثير من الأمور ضاربة في الزمن والذاكرة.. هناك تراث هائل في الجزائر بصمته أيادي وعقول ونخب تركية في كل المجالات ويحتاج إلى الكثير من الضوء كي يخرج من الظلال والعتمات والصناديق المغلقة.. ضوء يمكن أن نسترشد به للذهاب سوية نحو المستقبل، نحو أفق لامع ومبهر لكل البلدين وللأجيال القادمة.