الظاهر بيبرس درع الشرق الإسلامي
علي أيمره


وكان بيبرس حاجزاً أمام هذه الموجات من الأعمال العدائية التي تتداخل وتعتمد كل  واحدة منها على الأخرى، وكان بيبرس بمثابة درع كبير يحاول حماية الشرق الإسلامي.

هذا القائد المنضبط سريع البديهة والحركة كان لا يعرف للراحة طعماً لم يهزم في أي معركة من المعارك الأربعين التي خاضها خلال فترة حكمه التي استمرت سبعة عشر عاماً

كان بيبرس رجلاً يكاد يكون مكوّناً من الألم، فقد كان طوال حياته يعاني صابراً مع تلك الآلام، وكان كالقلعة التي احتوشتها المصائب والمشاكل من كل أطرافها ولكنها ساهمت في صقله وإعلاء شأنه

1223 - 1277 كان ركن الدين بيبرس الذي عاش في الفترة بين (1223-1277) والذي كان ينحدر من عشيرة القبجاق ذات الأصول التركية التي تعود إلى قبائل البورجالي، من أهم الشخصيات التي سمت ليس فقط في القرن الثالث عشر بل في تاريخ الإنسانية، وكانت حياة هذا البطل مليئة بالفتوحات والانتصارات، وكذلك مليئة بالصراعات والآلام، والتحركات التي تفاجئ العدو والصديق على الدوام.

سيرة حياته التي ابتدأت من كونه طفلاً في براري قبيلة القبجاق إلى القاهرة، ومن العبودية والرق إلى السلطنة، هذه السيرة المدهشة والعجيبة، أول ما يلفت النظر فيها هي الشجاعة والإقدام الكبير الذي نلاحظه من خلال مشاركته في رد الحملات الصليبية على مصر، ثم بعد ذلك نجد سيفه المصلت في معركة عين جالوت والتي تعد من أهم المعارك في التاريخ وأكبرها، هذا القائد المنضبط سريع البديهة والحركة كان لا يعرف للراحة طعماً لم يهزم في أي معركة من المعارك الأربعين التي خاضها خلال فترة حكمه التي استمرت سبعة عشر عاماً، فتجده يوماً يبحث عن حقوق النساء ويحاسب والي الإسكندرية، وتجده يوماً في القدس يحمل الحجارة على ظهره لترميم جدران القدس، ويوماً آخر يشارك الفقراء والمساكين في المدينة عشاءهم في مكان خصصه لهم، وفي يوم آخر يتحدث إلى أحد الرعاة في واحدة من قرى حلب، ونجد في سيرة هذا البطل أيضاً أنه على تماس مع نصف العالم في ذلك الوقت، فمع الحروب الصليبية التي لا تتوانى هناك الخطر المغولي الذي يهدد العالم ويكتسح ما في طريقه، ونجد أصداء هذا  ليس فقط في قصور الحكم وميادين المعارك بل نرى الاضطراب من أرغون إلى الصين ومن قرطاج إلى قيسري، وفي الغرب أيضاً نجد الملك لويس الحاكم الوحيد الذي أعلن قديساً وملك إنكلترا أدوارد ذو الأرجل الطويلة الذي أعدم زعيم الاسكوتلنديين ويليام فلاس كان لهما الكلمة في الرغب، وكذلك هولاكو قائد المغول وأباكا خان، وسلاطين الأيوبيين مثل نجم الدين أيوب وشجرة الدر الجميلة والطموحة، وهناك أصوات أخرى من الإمبراطورية البيزنطية، وبركة خان الذي تعاون مع بيبرس ضد المغول الإلهانيين، ويمر أمام أعيننا الحواجب الوجه المحتقن للوزير السلجوقي الذي أبرم اتفاقاً مع الخليفة العباسي المستعصم، وكذلك الحواجب المقطبة لابن تيمية وهو ما يزال طفلاً، ومئات من المدن ومجموعة كبيرة من الأسماء التي نجدها في النضال الذي خاضه بيبرس في هذه الحياة.

كان بيبرس رجلاً يكاد يكون مكوّناً من الألم، فقد كان طوال حياته يعاني صابراً مع تلك الآلام، وكان كالقلعة التي احتوشتها المصائب والمشاكل من كل أطرافها ولكنها ساهمت في صقله وإعلاء شأنه، وقد كان جده وعزمه وشدة إحساسه بالمسؤولية عالياً للغاية، كان يهتم بقنوات الري في الإسكندرية بقدر ما يهتم بذكريات الشهداء في الشام، ويراقب أمير مكة كما يراقب امبراطور ألمانيا، وكما يهتم باللاجئين والمهاجرين يهتم بقادة التركمان والسلاجقة في الأناضول، وكان يضرب بقبضته الحديدة على رقاب الذين يبيعون النساء ويسترقونها وفي نفس الوقت ينزله قبضته تلك على ظهور الأرمن الذين  يقطعون الطريق ويتعاونون مع المغول ويخفون دوريات المغول في بيوتهم، ويهتم بما يحدث في القاهرة وقونية وقرطاج كما يهتم بما يحدث في قيسري وتبريز والقسطنطينية، كان جهده وجهاده على وتيرة واحدة لا انقطاع فيه ولا توقف، وكان يحاول تلافي النقص الموجود باللغة العربية والعلم ما أمكنه إلى ذلك سبيل، وبمشاركة أهل الخبرة والمعرفة، ويرد على الانتقادات التي ترميه بالتورط في قتل السلطان الأيوبي طوران شاه والزعيم المملوكي المظفر قطز، وكان يبذل كل ما يملك لحماية حياة وممتلكات الناس ملايين الناس، وكأنه يجعل من نفسه درعاً أمام العالم الإسلامي، ولهذا يدعي درع العالم الإسلامي، فقد كان يحارب الحشاشين حتى أوشكوا على الانقراض، والمسلمون في الشرق يقفون في وجه الصليبيين ولا يعطونهم فرصة ويقفون أمام اعتداءاتهم سداً منيعاً، ويستعيدون منهم عدة مدن، والأهم من ذلك أنهم أهموا الحكم البيزنطي في إحدى ممالك الصليبيين الأربع وهي أنطاكية التي حكموها ما يقارب قرنين من الزمن،  ورغم أنه لم يرَ اليوم الذي نظفت فيه البلاد من الأعداء المحتلين إلا أنه ساهم بشكل فعال بتهيئة الوضع المناسب لذلك، ويساهم في إحكام البيت الإسلامي أمام حركات وحملات الاحتلال والغزو الخارجي، وكانت بعض تلك الحملات التي تأتي من طرف تونس تصد وتهلك عن بكرة أبيها قبل الوصول إلى البر التونسي، والأرمن الذين احتلوا جزءا من سوريا الحالية والذين كانوا يتآمرون مع المغول ضد هذه البلاد كان يكنسهم بظهر درعه من هناك، حت إنه كان يدخل إلى بلاد الأناضول لمعاقبة هؤلاء، والأهم من ذلك كما أسلفنا آنفاً أنه أوقف المغول، وقضى وأبعد وأرعب عدة من قادة المغول الذين كانوا متفقين مع الصليبيين حتى إن بعض أولئك القادة أعجب بالنصرانية وتنصر، وكان يمنع ضرر أولئك الخبثاء الذين تجمعوا في ألبستان وحاولوا أن يخنقوا العالم الإسلامي، وكان بيبرس حاجزاً أمام هذه الموجات من الأعمال العدائية التي تتداخل وتعتمد كل  واحدة منها على الأخرى، وكان بيبرس بمثابة درع كبير يحاول حماية الشرق الإسلامي من الخطر، ولا شك أنه يوجد في الداخل صراعات واختلافات وتناقضات في نفسه، ولا سيما في رحلته إلى حين أصبح سلطاناً، لم يكن حكيماً وعبقرياً مثل نور الدين زنكي وصلاح الدين الأيوبي، فقد وجد مكانته وتكاملت شخصيته واتضح أثره بعد أن بلغ السلطنة، ومن هنا تبدأ نظرته للأحداث وللدولة المسلمة وفهمه للقضية الإسلامية يتكامل، ويقدم خدمات جليلة للقدس، ويترك آثاراً شاهدة عليه في مصر وسوريا الحاليتين، وله جهد وإسهام واضح في الناحية العلمية والعمرانية، والآن الإنسان يتغير، وهذا مثال حيٌّ واضح أمامنا من التاريخ بدليل لا يقبل الشك.