رائد عظيم من روّاد الشعر التركي
محمد زكريا الحمد


الأديب سزائي قره قوج ساهم بأفكاره وأشعاره وكفاحه في تشكيل العالم الروحي للأجيال، ويعتبر بأنه "أحد أبرز قِيم" الشعب التركي في التاريخ القريب.

لقد كان الأستاذ سزائي قره قوج من أهم أعلام الفِكر الإسلامي في عصر الجمهورية التركية، ومن أعمدة النهضة الفكرية الإسلامية، وله ما يزيد على أربعين مؤلفاً متنوّعاً بين الفكر والأدب والشعر


يوصف سزائي قراقوج بأنه رائد الشعر التركي الروحي، وتراوحت جذور الشاعر الراحل الأدبية بين القصيدة الحداثية والتأثر بتاريخ الحضارة الإسلامية، كنتيجة لاهتمامه بالأدب الغربي والفكر الإسلامي على حد سواء

 

ولد الشاعر عام 1933 في 22 يناير/كانون الثاني 1933 في ديار بكر في قضاء أرغاني بولاية ديار بكر جنوب شرقي تركيا، وهو ابن التّاجر ياسين بك وأمينة هانم، اللذين أسرهما الروس أثناء القتال على جبهة القوقاز في الحرب العالمية الأولى.

  أتم دراسته الابتدائية في ديار بكر، ودرس الإعدادية في ولاية قهرمان مرعش، وأنهى الثانوية في ولاية غازي عنتاب عام 1950، وتخرج عام 1955 من قسم المالية في جامعة أنقرة، وتولى إدارة صفحات الأدب والفن في مجلة "الشرق الكبير" في الخمسينيات.

وبدأ العمل في المديرية العامة العامة للخزينة بالوزارة في ذات العام، وأصبح مساعد مفتش مالي في 11 يناير/كانون الثاني 1956، عُيّن الكاتب قره قوج في إسطنبول عام 1959 كمراقب للإيرادات، وأُتيحت له الفرصة لرؤية أجزاء كثيرة من البلاد بسبب واجبه وانتقل إلى إسطنبول بحكم وظيفته، وأدى الخدمة العسكرية في أنقرة وأغري عامي 1960-1961.

وكرّس حياته الأدبية والفكرية لتنشئة الشباب الذين يُسمّيهم "جيل القيامة أو جيل النهضة". ونُشرت قصائد قره قوج منذ الخمسينيات من القرن الماضي في المجلات ووسائل الإعلام المختلفة.

نُشرت أعماله الأولى في "الشرق الكبير" في الخمسينيات من القرن الماضي، مقالات يومية تحمل توقيعه في صحيفة "يني إسطنبول" على فترات مختلفة منذ 16 ديسمبر/كانون الأول 1963.

واعتلى سزائي قره قوج العرش في قلوب القرّاء بقصيدته "مينا روزا" التي أصبحت من أشهر القصائد في الأدب التركي.

وقره قوج الذي استقال من منصبه الرسمي لتكريس المزيد من الوقت للدراسات الأدبية، أسس حزب "القيامة" عام 1990 ليدرك العالم الذي كشفه في أشعاره وكتاباته ومجلاته وكتبه، وشغل منصب رئيس هذا الحزب لمدة سبع سنوات، لكن حُلّ حزب "القيامة" في 19 مارس/آذار 1997.

ولم يكتب الأديب التركي بعدها في أيّ مكان آخر غير مجلة "القيامة"، وكان يهدف إلى إحياء العالم الإسلامي الذي هُزم في الحروب العالمية.

وعمل خلال مسيرته الأدبية على إيقاظ الوعي حول هذا المفهوم، وبذل الجهود على الصعيد الشِّعري والفكري والسياسي من أجل صحوة العالم الإسلامي.  

يوصف سزائي قراقوج بأنه رائد الشعر التركي الروحي، وتراوحت جذور الشاعر الراحل الأدبية بين القصيدة الحداثية والتأثر بتاريخ الحضارة الإسلامية، كنتيجة لاهتمامه بالأدب الغربي والفكر الإسلامي على حد سواء، واعتبر أن التجريد في الفن الحديث مناسب لفهم الإسلام وقد طور قصائده في هذا الاتجاه.

وفي مقدمته لترجمة ديوان "أربعون ساعة مع الخضر" كتب الأكاديمي والمترجم عبد الرازق بركات إن قراقوج نموذج رائع للشعر يجمع بين شرف القضية وعظمتها وروعة الفن وجماله:

“كما أن الديوان هو الوحيد في الشعر التركي المعاصر الذي يتخذ من شخصية (الخضر) الدينية محورا تخللت إيحاءاته كل قصائد الديوان الـ40 ممتزجة بصوت الشاعر في نسيج متلاحم تسري فيه روح الماضي والحاضر والمستقبل”

ويقول المترجم إن قراقوج نشأ في ظل ازدواجية حضارية تعم العالم الإسلامي، ومع ذلك فقد تأثر بالشعر الصوفي لجلال الدين الرومي ويونس إيمره والشيخ غالب وحافظ الشيرازي وابن عربي وغيرهم، وتأثر كذلك برسائل النور التي ألفها الشيخ بديع الزمان سعيد النورسي (توفي في أورفا 1960):

وعايش قراقوج الشاعر الإسلامي نجيب فاضل (توفي 1983) الذي حمل لواء الاتجاه الإسلامي في الأدب التركي الحديث

ويتبنى قراقوج مفهوم "الإحياء الإسلامي" الذي تبناه العديد من المفكرين والأدباء في القرن العشرين، ويقول متقمصا شخصية الخضر: "المدن المجدبة موجودة، والخضر.. يحمل إليها النوار.. المتساقط من انشقاق القمر.. وسيأتي مساء يعود فيه.. الشباب إلى تلك المدن..".

تدابر، ويعبر عن ذلك شعرا بقوله:

"في ليلة من ليالي القدر.. بدأ قدر المسلمين.. الذين ذاقوا عذاب النمل فوق الأرض، يتحول.. فهم أكثر الناس فقرا، وانسحاقا، وانهزاما، وعذابا.. صامتون.. مجبرون على الصمت، مجبرون على التغير والتبديل، هم حمض التاريخ! تفيض شلالاتهم لكنهم محرومون من شربة ماء! منزوعون مطروحون خارج الجغرافيا، وخارج منطق الحصاد".
 

وينتقد قراقوج، بحسب مترجمه للعربية، الاستلاب وقابلية المسلمين للاستعمار، ويقول شعرا " أخي إبراهيم علمني.. كيف أهدم أصنام المرمر؟ فما مر يوم دون أن أهدم واحدا منها.. لكنكم لم تعلموني.. كيف أمحو ما في البيانات والكلمات والأوراق.."

شرح قراقوج فهمه للشعر في 3 كتب بعنوان "كتابات أدبية" وأشاد صديقه الشاعر التركي الشهير جمال ثريا (توفي 1990) بالشعر الصوفي الذي ابتكره سزائي قراقوج ووصفه بأنه شاعر يمزج محمد عاكف ونجيب فاضل.

ويتعامل قراقوج أيضا مع الشعر التقليدي، لكن لغته مختلفة؛ إذ كتب قصائده بلغة الشعر الحديث، وعرف قراقوج بالعناية في شعره بالتجريد وهو ما جعله على تماس مع الفن الحديث المستند على التجريد بشكل عام كذلك.

 

ويرى أنه إذا ترك الشاعر القصيدة في مستوى التجريد، فإنها ستكون ناقصة، ولإكمالها، يجب على الشاعر إعادة البناء، أي وضع الشيء الذي جرده في سياق جديد.

ويؤكد قراقوج أيضا أن الشاعر يجب أن يعيش مبادئه الشعرية ويتمثلها وأن يكون على طبيعته، وأن يكون مكتفيا بذاته ويرضى عن نفسه ويحب عمله "ويداعبه ويتغاضى عن شره أيضا"

وتوفي المفكر الذي وجد مكاناً في القلوب بقصائده التي قرأها أيضاً قادة الرأي والسياسيون والمفكرون في المجتمع عن عمر يناهز 88 عاماً في يوم الثلاثاء 16 نوفمبر 2021، في إسطنبول.

وأشاد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، بالشاعر والمفكر الراحل، وبإنجازاته الأدبية والفكرية، في رسالة تعزية نشرها، الأربعاء، في عدد من الصحف التركية، إثر وفاة سزائي قره قوج. وقال إن الأديب ساهم بأفكاره وأشعاره وكفاحه في تشكيل العالم الروحي للأجيال، ووصفه بأنه "أحد أبرز قِيم" الشعب التركي في التاريخ القريب.

 

وتقدّم الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين رئاسة وأمانة وأعضاء بخالص العزاء والمواساة إلى الأمة الإسلامية عامة والشعب التركي خاصة بوفاة الأديب قره قوج.

وجاء في نصّ البيان الصادر عن الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين: "لقد كان الأستاذ سزائي قره قوج من أهم أعلام الفِكر الإسلامي في عصر الجمهورية التركية، ومن أعمدة النهضة الفكرية الإسلامية، وله ما يزيد على أربعين مؤلفاً متنوّعاً بين الفكر والأدب والشعر".

وتابع البيان: "كان قره قوج حريصاً على وحدة الأمة الإسلامية، ولم يكن يخلُ حديث له من تذكير بها ودعوة لها، كما كان الأدب في يده أداة يدعو به الناس للخير والأمان والإسلام والإحسان، ومحاسن الأخلاق كافة".