جانر أرزينجان: نستطيع أن نحقق النجاح إن عملنا سويا

أنتجت السينما - التي تتغذى على الروح الإنسانية والحياة - أعمالا متأثرة بالشعبية في داخل المجتمع. وعلى التوازي مع هذا أُنتجت المزيد من الأعمال التي تتمحور على الهجرة الداخلية والخارجية باطّراد مع الفترات التي تزداد فيها الهجرة الداخلية والخارجية.

استخدمت السينما من قبل الدول كسلاح بهدف الدعاية. أعني أن السينما لها تأثير كبير يمكن أن تؤثر في الجمهور وتحركهم. ولعل فيلما ما -في هذا العالم الحديث وفي عصر الاتصال السريع- يصل إلى ملايين الناس ويؤثر فيهم.

القصص التي يتناولها الفنانون ستتحل إلى محور الصراع الثقافي ويجب أن يزداد عدد الأفلام من هذا النوع حتى نستطيع التعايش معا. أعتقد أنه لا تُنتَج في بلدنا أعدادا كافية من الأفلام التي تركز على قضية الهجرة.

إراي صاري چام

بادئ ذي بدء أرغب في الاستفسار من حضرتكم متى قررتم إخراج فيلم يركز على القضية السورية؟ وما الدوافع التي دفعتكم إلى إنتاج فيلم يتمحور حول قضية اللاجئين؟ وما السياق الذي يستند إليه فيلم "خط الحياة – سوريا"؟

في مطلع لقائنا أرجو لمجلتكم التوفيق والنجاح في مسارها المهني، وأهنئكم على تسليط الضوء على قضية اللجوء وإدراج مأساة اللاجئين في عددكم الجديد، وأشكركم مجدداً على إتاحة الفرصة لي لأقول كلمتي عن هذه القضية في حين نجد أن العالم أدار ظهره للقضية السورية.

أما عن سؤالكم، فالحرب السورية التي بدأت عام 2011 عُدَّت ولا تزال من أكبر مظالم تاريخ البشرية وفظائعه؛ لتداعياتها المستمرة على الوضع السوري. فلقد تعرض جارنا -الذي يعيش بجوار بيتنا جنباً إلى جنب - للاضطهاد والتعذيب والقتل. الجميع ناله نصيب من هذا العنف بشكل من الأشكال حتى العجائز والشباب والأطفال. لا تزال صورة الطفل "آيلان" - الذي حطت به أمواج البحر على شاطئه عام 2015- لا تفارق ذهني وأنا متأكد أن الصورة نفسها لا تزال حية حتى الآن في أذهان مئات الناس. ولقد دفعتي المأساة التي يعيشها جيراننا الذي لا يريدون أن يكونوا جزءًا من العنف، إلى إنتاج مثل هذا الفيلم.  كان فيلم "خط الحياة – سوريا" عبارة عن مشروع ضمن نطاق أفلام TRT لمؤسسة. لقد شاركت TRT بهذا الفيلم من خلال المنتج وكاتب السيناريو للفيلم وأنا سعيد جدًا بوجودي في هذا المشروع. في رأيي، تم إنتاج الفيلم في سياق التعايش والتعاون على العيش -في نفس الجغرافيا- قدرا واحداً وعلى احتمال عيش هذا المصير معًا ومساعدة بعضنا البعض، وأسست فيلمي على هذه الأرضية وعلى هذا الاعتبار، هذا الجغرافيا تسود فيها الحروب ولو تمكنا من العمل معا، فيمكننا تحقيق سلام لا تُطلق فيه رصاصة واحدة. وعلى ما أعتقد فإن القضية السورية بيّنت أنه لا يمكننا إدارة ظهورنا للإنسانية قائلين "هذه ليست قضيتي" فلم تسقط القنابل هناك فقط، لا ننس الناس الأبرياء الذين زهقت أرواحهم بقنابل خرجت من هناك وتفجرت في كل أنحاء المعمورة.

حسب ملاحظاتكم، كيف يتم تناول قصص الهجرة والمنفى واللجوء بدءا بالسينما التركية ومروراً بالجغرافيا الأوروبية خاصة والعالم؟ هل اهتمام الأفلام بمأساة اللاجئين العالمية كاف؟  وحسب اعتقادكم من يبرز في هذا الصدد على مستوى المخرجين والأفلام والدول?

لقد كانت المآسي - وفق ما لاحظته - محور الأفلام والقصص المنتجة حتى يوم الناس هذا، ولكن بسبب العولمة في العالم الحديث وسهولة الإمكانيات التواصلية تسارعت حركات الهجرة شتى أنحاء العالم وبقاعه. إلى جانب أن الحروب الناشئة والضغوطات الحكومية تسرع حركات اللجوء. هناك تسارع في حركة الهجرة وخاصة باتجاه الغرب، فعلى سبيل المثالهناك ازدياد بشكل ملحوظ في عدد اللاجئين في تركيا القادمين من الجمهوريات التركية والشرق الأوسط وإفريقيا. وهذا يؤدي إلى صراع ثقافي وظهور مشكلات بين الناس الذين ينتمون إلى قيم ثقافية واعتقادات مختلفة وسيستمر ظهور هذا الوضع. وبالتوازي مع هذا فإني أعتقد بأن القصص التي يتناولها الفنانون ستتحل إلى محور الصراع الثقافي ويجب أن يزداد عدد الأفلام من هذا النوع حتى نستطيع التعايش معا. أعتقد أنه لا تُنتَج في بلدنا أعدادا كافية من الأفلام التي تركز على قضية الهجرة، على الصعيد الفني نجد أن الفنانين يهتمون بهذه القضية ويريدون إنتاج الأفلام عنها، ولكن نظراً لقلة اهتمام الجمهور بهذه الأفلام يصعب على الفنانين إنتاج المزيد. أعتقد أنها هي القضية المحورية وأن حركة الهجرة هذه ستبدأ في استرعاء انتباه الناس ولفت انتباههم أكثر وبدوره سيؤدي إلى تصوير المزيد من الأفلام.

أما عن سؤالكم الآخر فإن البلاد التي شهدت الحرب وواجهت مشاكل الهجرة -بالطبع- تنتج أفلاماً أكثر عن هذا الموضوع؛ فمثلا فيلما “الثلج” و” أطفال سراييفا” للمخرجة البوسنية عايدة بيجيتش مثيران جدا في رأيي. أيضا المخرج البوسني دانيس تانويش له فيلم “الأرض المحايدة” كان درساً للبشرية قاطبة وأعتقد أن فيلم “السلاحف تستطيع الطيران” لباهمان غوبادي كذلك يجب أن يشاهده جميع الناس. وفيلم “أهلا وسهلا” لفيليب ليوريه فيلم مختلف ويتناول أيضا صراعات ثقافية ذات صلة، ومن الأفلام المشهورة أيضا فيلم “تحت الأرض” لأمير كوستوريسا.​​​​​​​

حسب معرفتي فقد تم تصوير خمسة أو ستة أفلام إضافة إلى فيلمكم عن القضية السورية -على الأقل- لوقد شاهدنا في السينما التركية غيرها أفلاما كثيرة عن الحرب والهجرة مثل التي تتناول حرب بوسنا أو هجرة الأتراك إلى ألمانيا إلخ. فما نقاط الألم المشتركة عند الحديث عن قضايا الحرب والهجرة لو أخذنا هذا الاختلاف الجغرافي للمناطق بعين الحسبان أيضا?

كل فيلم يقول كلمته للجمهور الذي يأخذه معه في رحلته ويترك بصمته وأثره فيه. وكما تعرفون فإننا رأينا في التاريخ -ولا نزال- كيف استخدمت السينما من قبل الدول كسلاح بهدف الدعاية. أعني أن السينما لها تأثير كبير يمكن أن تؤثر في الجمهور وتحركهم. ولعل فيلما ما -في هذا العالم الحديث وفي عصر الاتصال السريع- يصل إلى ملايين الناس ويؤثر فيهم. وبناء عليه وبعبارة أخرى فكلما أنتجنا أفلاما وأثرنا قضية الهجرة والمهاجرين نستطيع أن نؤثر في الجمهور المتلقي أكثر ونثير تعاطفهم. وبالتالي خلق اهتمام على نطاق عالمي.

أريد أن نقف على الهجرة الداخلية والخارجية في السينما التركيا. في أي السنوات والفترات رُكز في السينما التركية على قضية الهجرة؟ وكيف تم تناول موضوع الهجرة؟ أي المخرجين اهتموا بهذا الموضوع؟ مثلا هل هناك تحضّر وتمدن في الهجرة الداخلية…

أنتجت السينما - التي تتغذى على الروح الإنسانية والحياة - أعمالا متأثرة بالشعبية في داخل المجتمع. وعلى التوازي مع هذا أُنتجت المزيد من الأعمال التي تتمحور على الهجرة الداخلية والخارجية باطّراد مع الفترات التي تزداد فيها الهجرة الداخلية والخارجية. لكن هذه الأعمال اهتمت بنتائج حركة الهجرة أكثر من أسبابها من وجهة نظري. وحسبما توصلت إليه من بحثي فإن حركة الهجرة تسارعت بعد الحرب العالمية الثانية واطّردت مع حركة التمدن ولوحظت حركة الهجرة الداخلية بشكل جاد من القرية إلى المدينة. واعتبارا من ذلك الوقت فقد بدأ هذا الموضوع يأخذ موقعه دور السينما التركية وخاصة في الستينات والسبعينات مع زيادة الهجرة الداخلية حيث بدأت الاختلافات الطبقية بنسج القصة الأساسية في الأفلام. أما الاختلافات الطبقية فقد تظهر أمامنا كـ"القروي-المدني" و"الغني-الفقير". وبعد الثمانينات ظهر السكن العشوائي تماما ونشأت الأحياء العشوائية، وتماشيا مع ذلك ظهر الفرق بين الأغنياء والفقراء وظهرت أفلام تهتم بهذا الموضوع بأبعادها المختلفة. إن الأفلام التي تهتم بظاهرة الهجرة ظهرت في نوع الواقعية الاجتماعية بتأثير التيارات الفكرية والبنى والهياكل النقابية. وفي نفس الوقت بسبب الجو السياسي الذي ساد في السبعينات وجدت ظاهرة الهجرة مكانا لها في السينما السياسية أيضا. حركة الهجرة الدائمة من القرية إلى المدينة تستمر – بالطبع- وهذه الظاهرة ما زالت قائمة حتى اللحظة. وفي يومنا هذا يتم تصوير أفلام تدرس هذه الظاهرة، وأنا أيضا صورت فيلماً يتناول هذا الموضوع واسمه "العالم الجديد". إن ظاهرة الهجرة ما زالت تحافظ على مكانتها في المجتمع إلى يومنا هذا. أما الأفلام التي تتناول الهجرة الخارجية تصوّر بشكل أكثر من قبل المخرجين الذين يعيشون في ألمانيا وأوروبا. بحيث تتمحور هذه الأفلام على العائلات التي لا تستطيع أن تتكيّف -في البلد الذي تعيش فيه- مع الاختلافات الثقافية والاجتماعية ولا تندمج فيه ولا تشعر بالانتماء إليه، وتتناول أيضا الفرد الذي يُترك وحيدا وغريبا.  طبعا ازدادت الهجرة الخارجية إلى ألمانيا وأوروبا باستقطاب ألمانيا عمالا بعد الحرب العالمية الثانية ومنذ ذلك الوقت إلى يومنا هذا ما زالت هذه المشكلات موجودة. ولا يزال تصوير هذه الأفلام حتى الآن، وأهم ممثلي هذه الأفلام في رأيي هو "فاتح أكين". يستمر "فاتح أكين" بلا توقف بإنتاج أفلام تتطرق إلى هذا الموضوع وتتناول قضية الهجرة. لكن مسألة الهجرة -لكونها موضوعا متداولا في كل الأوقات- تستمر في دور السينما التركية منذ "محسن أرطغرل". حيث تشكَل ظاهرة الهجرة القصةَ الأساسية أو الرسائلَ غير المباشرة في أفلامنا. أما إذا أردتم أن أعطيكم أسماء مخرجين يتطرقون إلى هذا الموضوع -يعني يصورون أفلاماً عن ظاهرة الهجرة- فنرى أن "يلماز غوني" و"شريف غورن" و"لطفي أكاد" يهتمون في أفلامهم بشكل أساسي يتمحور على ظاهرة الهجرة.

كيف تعاملتم مع النزاعات الدائرة في منطقتنا ومع قضية اللاجئين أو ما يمر به اللاجئون في تركيا عندما بدأتم بفيلم "خط الحياة – سوريا"؟ وكيف جمعتم مواد الفيلم?

نظرت إليهم على أنهم بشر فقط، بشر يعيشون في هذا العالم مثلنا تماماً، صاروا ضيوفنا ولجؤوا إلينا هاربين من الحرب والظلم. لا أعتقد أنه من الصواب أن ننظر إلى إليهم تحت أي مسمة أو وصف بأي صفة أو اسم من قبيل "لاجئ" أو "متلجئ" أو "سوري" أو "عربي". ما عاشوه وعانوه كان صعبا عليهم جدا. ومرير جداً على الإنسان أن يتركوا وطنه ومسقط رأسه حيث فتح عينيه على الدنيا ويغادرها إلى بلد آخر ويحاول أن يتمسك بالعيش في جغرافيا مختلفة. أنا شهدت هذا معهم، وخلال تصوير الفيلم قضينا فترة عمل مع من استشرناهم من السوريين للهجة السورية. حاولت أن أشهد في تلك الفترة لطريقة حياتهم وثقافتهم، ذهبت معهم إلى المكان الذي يسكنون فيه وتجولت بين المخيمات. حاولت أن أعرف ما الثقافة والنظرة العالمية التي يمتلكونها. وبهذا الشكل حاولت أن أحكي حياتهم وثقافتهم والفترة التي قضوها وتأثيرات الحرب وعواقبها وأفكارهم عن المستقبل في هذا الفيلم. حاولت أن أكوّن هذا الفيلم من خلال التعرف عليهم ومحاكاتهم وبمحاولة معرفة تلك الثقافة.

أخيرا، أكيد أنكم قبل أن تصوروا فيلمكم حضرتم - للقضية السورية وقضية اللجوء- تحضيراتتمهيدية. في فترة البحث هذه ما أهم الأشياء المؤلمة بالنسبة لكم والتي لا يمكنكم نسيانها أبدا?

لا أستطيع أن أنسى -ما حييت- صورة الطفل "أيلان" الذي ألقته الأمواج على شاطئ البحر، هذه الحادثة حفرت في ذهني بحيث لا يمكن أن تفارقه، لا أظنني أنساه، ولا أتخيل أن تنساه الإنسانية بسهولة، أضف إلى هذا زيارتنا لمخيم اللاجئين حين صورنا الفيلم؛ لا أستطيع نسيان وجوه الأطفال ونظراتهم إلينا من خلف السياج، هذا المشهد لا يفارق ذهني، وكذلك لن أنسى مشهد الأمل المتمثل بتلك الأم التي شتلت الطماطم لأطفالها في مسكبة من مترين بجوار خيمة قطنوها في مخيم اللجوء..