أروى العمر: نزار قباني شاعر التحدي
محمد زكريا الحمد


الشاعر منذ الأزل مسكون بالغربة محاط بالأسوار يتخيل كل ما حوله عائقا بينه وبين الإبداع وهو مفطور بنسبة ما على التحدي والمغامرة.

شعر نزار السياسي كان وجدان الشعب ولسانه أخلص للوطنية فقط فلم تسجل ضده المواقف.

نزار ظاهرة حقيقية حولت الشعر لخبز يتناوله العامة والخاصة.

سيدة أروى بدايةً كيف يمكن لك أن تعرفي نزار قباني؟ أو كيف يمكن أن نعرف نزار قباني من خلال القرّاء؟?

 

أقل ما يقال به أنه مارد الشعر المتمرد على الأعراف على السياسة على اللغة تشكل دمشق جغرافيا واحدة مع جسده هي نقطة ضعفه وقوته حملها على كتفيه بالرغم من محاولات ابتزازه بها ومساومته عليها.. نزار ظاهرة حقيقية حولت الشعر لخبز يتناوله العامة والخاصة

وربما يعرف هو عن نفسه فيقول:

كئيب.. نعم

ملول.. نعم

نرجسي.. نعم

أنا المتناثر بين المنافي

أنا المتسكع في طرقات العدم

عشقتُ ألوف النساء.. نعم

خذلت ألوف النساء.. نعم

وودعتهن بكل اللياقات..

حين اعتراني السأم..

وأغلقت كل دفاتر حبي

فحبي الحقيقي.. كان القلم..

.

الشعر هو حالة صدامية والقصيدة التي تخاف السياف خير لها أن تدخل غرفة نومها وتنام، والشعر الذي يبحث نصف الحلول خير له أن يستقيل، ما مدى انطباق هذا على شعر نزار؟?

منذ بدايته كان ذو تجربة جريئة أقدم على طباعة ديوانه الأول وهو طالب في كلية الحقوق، القصيدة في عرفه صرخة يجب أن تصل .

وكثيرا ما عرضته صرخاته للمساءلات وجرأته للاستنكار، اضطر أحمد حسن الزيات المحرر الإخباري في مجلة الرسالة أن يحرف اسم الديوان (طفولة نهد) إلى (طفولة نهر) لخروجه عن المألوف وتقدم أعضاء البرلمان بشكوى ضده لتجاوزه على الذات الإلهية في قصيدته (خبز وحشيش وقمر) أما هو فقد سخر من الذين مارسوا ترفهم الثقافي مستكينين لما هو قائم مبتعدين عن الصدام الاجتماعي أو السياسي معتذرين للتاريخ عن الحضور.

فمكان الشاعر على خط المواجهة.

من أهم القيم التي تغنى بها نزار هي قيمة الحرية، حتى لقد حمل اسمها أحد دواوينه (تزوجتك أيها الحرية)، ما الذي يعنيه هذا الارتباط وما مكانة هذه القيمة في شعر نزار?

الشاعر منذ الأزل مسكون بالغربة محاط بالأسوار يتخيل كل ما حوله عائقا بينه وبين الإبداع وهو مفطور بنسبة ما على التحدي والمغامرة ونزار مثال حي لذلك كله بالرغم من إدراكه لخطورة ما تعنيه فكرة التحدي والحرية، سواء الحرية المجتمعية "المتمثلة بالمرأة" أو الحرية السياسية "المتمثلة بالوطن" وشعره يغص بالصرخات كما سماها لإيقاظ أهل الكهف والتحريض على الحرية فالعداوة برأيه أبدية بين الكلمة والسلطة تحديدا في الشرق يقول:     

في بلاد الغرب يا سيدتي يولد الشاعر حرا

ولدينا يولد الشاعر في كيس غبار

إنها معجزة أن يصنع الشعر من الليل نهار

نحن لا نكتب مثل الشاعر الغربي شعرا إنما

نكتب يا سيدتي صك انتحار


يقول نزار: أنا لا أكتب لكي يقرأني عشرة أشخاص بل أكتب ليقرأني مئة وخمسون مليون عربي، هل يصبح الشاعر شارعاً عند نزار?

لقد كان ذكيا طموحا أراد ووصل فلم يكن نزار يخدم الحرف بل كان الحرف يخدم نزارا صرح في لقاءاته بغير مكابرة أنه لا يكتب للنخبة بل يحرص على الوصول للجميع ولو سمع أن أحدا لا يقرأ شعره لذهب إليه معتذرا لقد استطاع أن يجد المعادلة الصعبة التي تربطه بالجميع فلا يستغربه العامة ولا يستهين به الخاصة احترم عقل المتلقي وقال الشارع العربي ليس غبيا فهو من بين الشعوب يتميز بأنه يعترف بمكانة الشعر العلية وافتخر بأن طلاب الجامعات يسكرون بقصائده على ضفاف دجلة.

لفلسطين مكانها الذي لا يزاحك في أدب نزار، وخاصة انتفاضة أطفال الحجارة، حتى لقد قال: يمكن نؤرخ بهذه الانتفاضة فنقول ما قبل أطفال الحجارة وما بعد أطفال الحجارة، كيف يمكن أن نجد هذا في أدب نزار?

بحسب الدكتور خسام الخطيب لم يكن نزار من الشعراء الملتزمين وصنفه مع شعراء المناسبات والحقيقة أن نزاراً  كان مخلصا للشعور لا يتكلفه ولا يتجاهله لكن المواقف الكبرى كانت تجبره على التوقف في عرض الشارع وفلسطين لم تكن غائبة منذ أن انتسب إليها:

     

نحن عكا ونحن كرمل حيفا

وجبال الجليل واللطرون

كل ليمونة ستنجب طفلا

ومحال أن ينتهي الليمون

 إلى أطفال الحجارة الذين أذهلوا العالم وأدهشوا قلم نزار فكتب ثلاث قصائد في شهر واحد منبهرا ببراءة جرأتهم التي قلبت طاولة المفاوضات وصفعت غطرسة اسرائيل وتخاذل الحكام.
 

يا تلاميذ غزة علمونا بعض ما عندكن فنحن نسينا

نحن أهل الحساب والجمع والطرح فخوضوا حروبكم واتركونا

قد صغرنا أمامكم ألف قرن وكبرتم هلال شهر قرونا


كان بيت توفيق القباني والد نزار مكاناً يتجمع فيه الزعماء الوطنيون، فكان والده يجمع بين صناعة الحلوى وصناعة الثورة ضد الفرنسيين، ما أثر ذلك في مسيرة نزار?

إن النتيجة المتوقعة لحضور مجالس الزعماء الوطنين ونقاشاتهم والاطلاع على إجراءات التوقيف والاعتقال التي كانت تطالهم وتطال والده من بينهم أحيانا أن يتشكل ذلك الوعي السياسي الذي كشف عن القبح المستشري في الوطن العربي ويعريه مما جعل بعضهم يتهمه بالسوداوية والانهزامية والتي ينفيها عن نفسه بأن تنظيف الوطن يحتاج إلى بلدوزر يجرف كل النفايات أولا ليستطيع بعدها زراعة القمح والورود.

يقول نزار تحول الشعب إلى وحش سياسي فإذا لم تقدم له أدباً سياسيّاً أكلك، ما رؤيتكم لشعر نار السياسي?

شعر نزار السياسي كان وجدان الشعب ولسانه أخلص للوطنية فقط فلم تسجل ضده المواقف واكتشف بحاسته السادسة كما يقول إن الجمهور لم يعد يرضيه أدب ال مارون كلاسيه والخطابة والصالونات بينما الشارع يحترق وقلبه يحترق لهذا كتب له قصيدة (بلقيس) التي مازالت حتى اليوم أروع وأصدق الشعر السياسي:

 

قتلوك يا بلقيس..

أية أمةٍ عربيةٍ..

تلك التي

تغتال أصوات البلابل

سأقول في التحقيق:

إن اللص أصبح يرتدي ثوب المقاتل

وأقول في التحقيق:

إن القائد الموهوب أصبح كالمقاول..

وأقول: إن نضالنا كذبٌ

وأن لا فرق..

ما بين السياسة والدعارة!!

سأقول في التحقيق:

إني قد عرفت القاتلين

وأقول:

إن زماننا العربي مختصٌ بذبح الياسمين


يجب على الشاعر أن يجاري الأحداث الكبرى لعصره ويجيب على أسئلة جمهوره فيما يعيشون من واقعهم، لذلك يقول نزار: لا أستطيع أن أكتب عن امرأة تجلس عند الكوافير بينما أطفال فلسطين يقتلون برصاص الاحتلال، ما نظرتكم لهذا عبر نزار قباني.?

المرأة والوطن في شعر نزار متلازمان والعلاقة بينهما معقدة هو مولع بتأنيث الأشياء ربما لتصح العلاقة التكاملية بينه وبينها كتب للأنثى الوطن فأبدع وحين اعتل الوطن اعتلت القصيدة.

 

يا وطني الحزين

حولتني بلحظة من شاعر يكتب للحب وللحنين

لشاعر يكتب بالسكين

لأن ما نحسه أكبر من أوراقنا

لا بد أن نخجل من أشعارنا

مالحة في فمنا القصائد مالحة ضفائر النساء

والليل والأستار والمقاعد مالحة أمامنا الأشياء

يقول نزار إن شعري المغنى أوصلني للناس أكثر ما أوصلتني كتبي، ومن لم يقرأ كتبي أستمع إلى شعري المغنى، ما السر في تعاون عمالقة الفن مع نزار وهل الفن المغنى رديف للشعر برأيكم.?

السر هو أن عمالقة الفن وجدوا في نزار المصدر الأكثر مطابقة لمعايير الأغنية رفيعة المستوى وكذلك فإن نزاراً وجد لديهم الطريق الأنجح للانتشار المنشود وهو هدفه المعلن فمستمعو الأغاني أضعاف قراء الدواوين وأحسب أن كثيرا من مستمعي عبد الوهاب ونجاة وعبد الحليم وكاظم بحثوا عن دواوين نزار وليس قراء الدواوين من بحث عن الأغنيات ، نزار ارتقى بذائقة المستمعين لتشكيل ثقافة عاطفية راقية أشعرت المستمع العادي بالفخر وخلصته من الإحساس بالذنب لبعده عن مصادر الثقافة المكتوبة ، وأظن أن شعره السياسي قد ظلم لأنه لم يحظ كالغزل بمهتم به في هذا المجال .