خط بين الماضي والحاضر حنّأ مينا
محمد إقبال البوشي
الروائي السوري حنا مينه وأدبه الذي لم يُلد من التعقيدات الشكلية ، يعتبر أشهر الروائيين السوريين والعرب الذي ساهم وبشكل كبير في تطوير الرواية العربية.
لقد كان البحر دائما مصدر إلهامه، فلو سُئل البحر يوما من أحب الناس إليه لأجاب: حنا مينه.
تحولت العديد من روايات حنا مينه إلى أفلام سينمائية سورية ومسلسلات تلفزيونية، كما ترجمت بعض أعماله إلى سبع عشرة لغة أجنبية.
9 ولد حنا مينه في اللاذقية، في ٩ آذار/مارس ١٩٢٤ في أسرة عانت الفقر المدقع، حيث عاش طفولته في قرية السويدية القريبة من لواء الإسكندرون، وفي عام 1939 عاد مع عائلته إلى مدينة اللاذقية حيث استقر بهم المقام في حي المستنقع.
وكحال جميع الأطفال فقد دخل حنا مينه المدرسة في السن السابعة وحصل على شهادة التعليم الابتدائي، إلا أنه لم يكمل دراسته بسبب سوء الأحوال المعيشية التي كان يعيشها، واتجه للعمل كأجير في عدد من الوظائف، أولها كعامل لحمل البضائع على ميناء اللاذقية، إلى أن انتقل للعمل بوصفه بحارا على السفن والمراكب.
وقد قاده حماسه الزائد إلى الانخراط في العمل الحزبي لتأسيس نقابة للعمال على المرفأ الذي يعمل عليه هو ومجموعة من أصدقائه وقد عانوا فيه الكثير، كما كان إلى جانب ذلك يعمل كموزع لصحيفة صوت الشعب ذات الاتجاه اليساري الذي يعارض الإقطاعية ويهاجمها، مما جرّ عليه حقد وغضب عدد من الإقطاعيين الشيء الذي جعله يتعرض لعدد من محاولات الاغتيال، وبعد شوط طويل في عدد المهن التي عانى من خلالها مرارة العيش وضنكه، انتقل حنا مينه إلى بيروت بحثا عن عمل، لكن شوقه لبلده عجل بعودته إليها خصوصا إلى مدينة دمشق حيث بدأ عمله الأدبي هناك في جريدة الإنشاء الدمشقية محررا، ثم أصبح رئيسا للتحرير، كما عمل في الكتابة للإذاعة السورية، فكتب لها عددا من المسلسلات بالعامية قبل أن ينتقل للعمل في وزارة الثقافة..
إنجازات وأعمال:
“عمل في بداية حياته موزعا لجريدة صوت الشعب، ودخل المعترك السياسي وناضل مع رفاقه ضد الاحتلال الفرنسي. وفي عام 1948 انتقل حنا إلى بيروت بحثًا عن عمل، وعاد إلى دمشق وبدأ عمله الأدبي هناك في جريدة الإنشاء الدمشقية محررًا متمرنًا يتقاضى راتبًا قدره 100 ليرة سورية، ثم أصبح رئيسًا للتحرير، كما عمل في كتابة المسلسلات الإذاعية قبل أن يعمل في وزارة الثقافة. تنقل الكاتب حنا المينه بين العديد من البلدان، فسافر إلى أوروبا ثم إلى الصين، لكنّه في النهاية عاد إلى سوريا. لقد ساهم مع عدد من الكتاب السوريين أمثال حسيب كيالي ومصطفى الحلاج في تأسيس رابطة الكتاب السوريين عام 1951. وشارك أيضًا في تأسيس اتحاد الكتاب العرب عام 1959 وحصل على جائزة الكاتب العربي عام 2005. له أكثر من 40 رواية وقصة إحداها "المصابيح الزرق" التي نقلها إلى التلفزيون ورواية "الشراع والعاصفة" التي نُقل نصها إلى السينما. أعادت رواية "المستنقع" بقايا ذكريات مينه في الإسكندرون، وقد وصفها الناقد الأدبي صلاح فاضل بأنّها الأعظم من بين السير الذاتية على الإطلاق والأوفر صدقًا والأغنى فكرًا. من أهم أعمال حنا مينه "الياطر" و"حمامة زرقاء في السحب" و"حدث في بيتاخو" وغيرها كثير، فقد تجاوزت أعماله الأربعين روايةً وقصة.”
ومضات من حياة شاقة :
كان حنا مينه وحيدًا لأبويه مع ثلاث بنات تحت جناح أسرة فقيرة ، لذا اضطر مينه إلى العمل منذ نعومة أظافيره للتخفيف من العبء على والده، وقد عانى في طفولته من الأمراض التي كادت تودي بحياته. واجه مينه كغيره من الناجحين الكثير من الصعاب أثناء مسيرته المهنية حتى أنه تعرض مرة للطعن بالخنجر ليلًا في أحد الشوارع في الفترة التي عمل بها بائعًا لجريدة صوت الشعب، لكنّه لم يدخل المستشفى خوفًا من الاغتيال. كان أول ما كتبه عملاً مسرحيًّا، لكنّه ضاع من مكتبته فعزف عن الكتابة للمسرح. ناضل ضد الانتداب الفرنسي على سورية ودخل السجون مرارًا، كما تعرض للنفي خارج البلاد.
أسلوب روائي البحر:
من يقرأ أعمال الروائي السوري حنا مينه كأنه يقرأ البحر، سيبحر بسفينة حروفه، ويستلقي على الرمال المتنائرة بين سطوره. لقد أطلق عليه الكثيرون ب "أديب البحر" نظرا للعلاقة القوية والعميقة بين أدب حنا مينه والبحر وما أشار إليه من رموز ومعاني. وبكل شجاعة وثقة، حمل القلم بيده، كما حمل الأثقال أيام عمله في موانئ اللاذقية، وارتحل من مكان لمكان، ليجمع كتاباته بحبر أفكاره وأحلامه ومعناته، كانت أول رواياته هي "المصابيح الزرق" 1954، وألَّف كتبا منها : "ناظم حكمت ثائرا" 1980، "هواجس التجربة الروائية" 1982.
يتسم اسلوب حنا مينه بالإبداع الواسع والمتنوع ، وإن تكرر ذكره للبحر في كتابته، سوف تلاحظ أنه يقدم للقارئ فكرة وقضية بإبداع جديد في كل عمل له. جميع الشخصيات التي يذكرها تتميز بطابع خاص وتحمل شخصية فريدة من نوعها ومختلفة بشكل جذري عن الأخرى. هنالك شخصيات لن ينساها أي قارئ لأعمال حنا مينه التي تركت أثرا قويا على القارئ منها : شخصية الطروسي في رواية "الشراع والعاصفة" ، شخصية أم حسن في نفس الرواية ، وشخصية زنوبة في رواية "بقايا صور"... الخ. أيضا سيكون من السهل على النقاد أن ينظروا إلى أدب حنا مينه من الجانب اللغوي والفني والشكلي أو ما يسمى "بالمدرسة الشكلية" ولكن بكل تأكيد ، من الصعب أن نغض البصر عن الواقعية التي ينقلها حنا إلينا في جميع أعماله، فنراه مرة كشخصية بطلة في الرواية، ومرة نجده يأخذ موضع المراقب لشخصياته من بعيد ولكنه بين كل فينة وأخرى يتدخل ليبدي عن رأيه بواقعه الخاص. رواية حنا مينه تكتب في الذاكرة كونها جزء من التاريخ والواقع. وشخصياته المتنوعة، الميتة، الحية، الواقعية أو الأسطورية، نراها معنا في واقعنا. لذلك ، ليس من السهل أبدا أن نتعرف على أدبه خلال مقالة، إن هذه الكمية الكبيرة من الإبداع تحتاح لوقت طويل من البحث والتفكير بشكل واعي. أما إذا أردنا الحديث بمنهج بحثي عن الحركة الأدبية السورية ضد الاستعمار فقد كان حنا مينه أحد رواد هذه الحركة وشاركه فكريا العديد من الأدباء والفنانين السوريين، والذين أسسوا فيما بعد "رابطة الكتاب السوريين" أو ما أصبح فيما بعد "رابطة الكتاب العرب" عام 1954.
وصية حنا مينه:
"أنا حنا بن سليم حنا مينه، والدتي ميريانا ميخائيل زكور، من مواليد اللاذقية العام 1924، أكتب وصيتي وأنا بكامل قواي العقلية، وقد عمّرت طويلا حتى صرت أخشى ألا أموت، بعد أن شبعت من الدنيا، مع يقيني أنه "لكل أجل كتاب". لقد كنت سعيدا جدا في حياتي، فمنذ أن أبصرت عيناي النور، وأنا منذور للشقاء، وفي قلب الشقاء حارب الشقاء وانتصرت عليه، وهذه نعمة الله، ومكافأة السماء، وإني لمن الشاكرين. عندما ألفظ أنفاسي الأخيرة، آمل، وأشدد على هذه الكلمة، ألا يذاع خبر موتي في أية وسيلة إعلامية، مقروءة أو مسموعة أو مرئية؛ فقد كنت بسيطا في حياتي، وأرغب أن أكون بسيطا في مماتي، وليس لي أهل، لأن أهلي جميعا لم يعرفوا من أنا في حياتي، وهذا أفضل، لذلك ليس من الإنصاف في شيء، أن يتحسروا علي عندما يعرفونني بعد مغادرة هذه الفانية. كل ما فعلته في حياتي معروف، وهو أداء واجبي تجاه وطني وشعبي، وقد كرست كرست كل كلماتي لأجل هدف واحد: نصرة الفقراء والبؤساء والمعذبين في الأرض، وبعد أن ناضلت بجسدي في سبيل هذا الهدف، وبدأت الكتابة في الأربعين، شرّعت قلمي لأجل الهدف ذاته، ولمّا أزال. لا عتب ولا عتاب، ولست ذاكرهما هنا إلا للضرورة، فقد اعتمدت عمري كله، لا على الحظ، بل على الساعد، فيدي وحدها وبمفردها صفّقت، وإني لأشكر هذه اليد، ففي الشكر تدوم النعم. أعتذر للجميع، أقرباء، أصدقاء، رفقاء، قرّاء، إذا طلبت منهم أن يدعوا نعشي محمولا من بيتي إلى عربة الموت، على أكتاف أربعة أشخاص مأجورين من دائرة دفن الموتى، وبعد إهالة التراب علي، في أي قبر متاح، ينفض الجميع أيديهم، ويعودون إلى بيوتهم؛ فقد انتهى الحفل، وأغلقت الدائرة. لا حزن، لا بكاء، لا لباس أسود، لا للتعزيات، بأي شكل، ومن أي نوع في البيت وخارجه، ثم، وهذا الأهم، وأشدد: لا حفلة تأبين، فالذي سيقال بعد موتي سمعته في حياتي، وهذه التأبين، وكما جرت العادات، منكرة، منفرة، مسيئة إلي، أستغيث بكم جميعا أن تريحوا عظامي منها. كل ما أملك في دمشق واللاذقية، يتصرّف به من يدّعون أنهم أهلي، ولهم الحرية في توزيع بعضه على الفقراء، الأحباء الذين كنت منهم وكانوا مني، وكنا على نسب هو الأغلى، الأثمن، الأكرم عندي. زوجتي العزيزة مريم دميان سمعان، وصيتي عند من يصلّون لراحة نفسي، لها الحق، لو كانت لديها إمكانية دعي هذا الحق، أن تتصرف بكل إرثي. أما بيتي في اللاذقية، وكل ما فيه، فهو لها ومطوّب باسمها، فلا يباع إلا بعد عودتها إلى العدم الذي خرجت هي، وخرجت أنا منه، ثم عدنا إليه".
أبرز جوائزه:
جائزة المجلس الأعلى للثقافة والآداب والعلوم بدمشق لعام 1968 عن رواية "الشراع والعاصفة".
جائزة سلطان العويس من الدورة الأولى عام 1991 على عطائه الروائي.
جائزة المجلس الثقافي لجنوب ايطاليا لعام 1993 عن رواية "الشراع والعاصفة" كأفضل رواية مُترجَمة إلى الإيطالية.
وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الممتازة لعام 2002.
جائزة الكاتب العربي لعام 2005 من اتحاد الكتاب المصريين بمناسبة مرور ثلاثين عامًا على تأسيسه؛ اعترافًا بإنتاجه الأدبية