حوار عمر أبي ريشة

محمد زكريا الحمد


لو نظرنا إلى الكم الشعري لدى أبي ريشة لوجدنا أن الوطن والمرأة يشغلان الحيّز الأكبر من شعره، ولكن في تضاعيف قصائده الغزلية والوطنية معاً، نجد فلسفة قائمة للحياة.

إن أبا ريشة أغنى موهبته الشعرية منذ وقت مبكر، بروافد ثقافية وإبداعية من خلال اطلاعه على الآداب الأخرى، إذا كان يتقن عدة لغات، أشهرها الإنكليزية والفرنسية، فكان واسع الاطلاع.

قصائد أبي ريشة كانت متفرّدة من حيث الرؤية الشعرية ولا تحمل أي بصمة لسواه من الشعراء.

في البداية أستاذ حسن النيفي كونك ابن منبج وكونك شاعراً كيف تعرف بالشاعر عمر أبي ريشة?

عمر أبو ريشة هو أحد الشعراء العرب السوريين المجدّدين، استطاع أن ينهض بالقصيدة العربية من حالة التقليد والاستهلاك إلى آفاق إبداعية جديدة، وذلك بفضل ما امتلكه من فرادة في الموهبة وعمق في الثقافة، فضلاً عن ذكاء وقّاد مكّنه من التمييز بين التجديد القائم  الإبداع والخلق الفني الذي لا يفارق الذات الشخصية والوطنية والحضارية، وبين الانسلاخ الكلّي والتهويم في فضاءات الاستغراب الثقافي والفني، وهو بهذا ، أثبت أن التجديد والإبداع في الفن هو أحد المشتركات الإنسانية عامةً، ولا يعني الانزياح الكلّي من حيّز ثقافي وحضاري إلى آخر.

يقول أبو ريشة "أنا لست شاعر البيت بل أنا شاعر قصيدة، ولا أسجل كل عاطفة تمر بي بل أسأل نفسي هل سجلها أحد قبلي فإن كان الجواب لا، سجلتها وإلا تركتها" هل هذا العزف المنفرد يلحظ في شعر أبي ريشة ومنهجه في اختيار موضوعاته وطرحها برأيكم?

قد تميّز أبو ريشة باختيار أفكار قصائده بدقة عالية، ونلاحظ انه وإن تناول فكرةً مُتداولة من قبل، فإنه يحاول طرحها بطريقة مختلفة، ولعل هذا ما جعله بعيداً عن التقليد واجترار السلف، وبخاصة قصائده في المرأة على سبيل المثال، إذ نجد على الدوام أن أبا ريشه يحاول في شعره أن يقارب مشاعر المرأة من خلال رؤية فلسفية تتجاوز الصفات النمطية للمرأة كما توارثها الشعراء، وكذلك في قصائده التي تتحدث عن الأوابد التاريخية، فإنها يحاول استنطاق تاريخها وأبعادها الحضارية والإنسانية ولا يكتفي بتسجيل ظهورها الحسي فقط، كما في قصيدته ( معبد كاجوراو). وربما انطلق من إيمانه بأن الإبداع هو خلقٌ فني جديد وليس مجرّد براعة لغوية وبلاغية، وهذه الرؤية بلا شك، تجسّد وعياً فنياً وفكرياً متطوراً وراقياً قد حازه أبو ريشة بكل اقتدار..

يعتقد البعض أن من المبدعين الذين حفروا إبداعهم في ذاكرة شاعرنا بشارة الخوري (الأخطل الصغير) والبعض يقول إن نفس المعري يشتم في ثنايا شعر أبي ريشة، ما قولكم أستاذ حسن?

لئن كان من الصحيح أن أبا ريشة قد قرأ جلّ الموروث الشعري العربي، وكذلك الشعر في العصر الحديث، فضلاً عن علاقات وثيقة كانت تربطه بالعديد من شعراء عصره، إلّا أن ذلك لا يعني أنه قد وقع تحت تأثير مباشر لشاعر محدد، كما أعتقد أن قصائد أبي ريشة كانت متفرّدة من حيث الرؤية الشعرية ولا تحمل أي بصمة لسواه من الشعراء، هذا بالطبع لا ينفي التقاطعات الأخرى مع شعراء كثر، فعلى سبيل المثال، ثمة تقاطع بينه وبين المعري فيما يخص النزعة ( الجوانية) اعني استبطان الأشياء والتفاعل مع مكنوناتها بدلاً من ملامسة طابعها الحسي فحسب، وكذلك ثمة تقاطع بينه وبين بشارة الخوري فيما يخص الاعتناء والحفاوة بالصورة الشعرية، ولكن يبقى لكل شاعر من هؤلاء هويته الفنية ورؤيته الفكرية التي تميّزه عما سواه.

طوّف الشاعر في سفره الطويل على مدن الشرق مدينة من الهند شرقاً إلى الرباط والدار البيضاء غرباً، ومن أوروبا إلى أميركا، أين نجد آثار هذه الأسفار في أبي ريشة شاعراً وإنساناً؟?

حياة عمر أبي ريشة المليئة بالترحال والسفر، قد فتحت أمامه آفاقاً ثقافية ومعرفية واسعة، وقد كان شديد التفاعل مع مشاهداته وما يراه في أسفاره، وهذا يعود إلى انفتاح أبي ريشة إنسانياً وحضارياً على الثقافات الأخرى، وقد كتب قصائد غاية في الروعة والإبداع من وحي مشاهداته وأسفاره ( أندلسية – تاج محل – معبد كاجوراو وسواها من قصائد في المرأة والحب والحياة)، وربما كان هذا النزوع الثقافي والانفتاح الحضاري لدى أبي ريشة يؤكّد على عمق المشتركات الإنسانية بين البشر، والتي أحسن أبو ريشة في استثمارها وتوظيفها في شعره.

مما عرف عن أبي ريشة الحضور الكبير للوطن في حياته وفي قوافيه ولعل هذا أحد أكبر مثيرات الإبداع في مسيرة الشاعر، برأيكم ما هي موارد الإبداع عند شاعرنا؟?

لو نظرنا إلى الكم الشعري لدى أبي ريشة لوجدنا أن الوطن والمرأة يشغلان الحيّز الأكبر من شعره، ولكن في تضاعيف قصائده الغزلية والوطنية معاً، نجد فلسفة قائمة للحياة، فالوطن لدى أبي ريشة لا ينحصر في حيّز الجغرافيا فحسب، بل يمكن القول: إن قيمة الوطن تتحدّد بقيمة الإنسان الذي يحيا فيه، وخاصة أن أبا ريشة قد عاصر مرحلة الاحتلال الأجنبي، لذلك كان الهاجس الأقوى في شعره الوطني هو هاجس التحرر من المستعمر، أعني تحرر الإنسان العربي من الجور والعبودية. أما بواعث الإبداع لديه فيمكن الإشارة إليها من خلال عدّة سمات، لعل أبرزها: الموهبة المتوقدة، والحساسية العالية المرهفة، وتدفق الوجدان، أضف إلى ذلك سعة ثقافته وشموليتها، ولعل الأهم من ذلك كله، هو الانفتاح الثقافي على الآخر المغاير، وعدم التقوقع في محراب الإيديولوجيا التي غالباً ما تقف عائقاً أمام حيوية الإبداع والفن وثراء المعرفة.

البعض يتساءل: إن الحياة الباذخة المترفة التي يعيشها الشاعر لا تدعوه إلا إلى الفرح والسرور والنعيم المقيم، فمن أين هذه الأحزان والجراح?

لا أعتقد أن ثمّة تلازماً بين الرخاء المادي وبحبوحة العيش كما يقال، وبين حالة الغبطة والفرح والسعادة، إلّا بحدود نسبية جدّاً، ذلك أن الحزن الذي نراه في تضاعيف شعر أبي ريشه إنما مبعثه شعور داخلي بالاغتراب، وإحساس بالفجيعة، ربما نابع من تفاعله وتماهيه بقضايا الإنسان على العموم، وقضيته الوطنية على وجه الخصوص، وربما كان من الصحيح أن أبا ريشة لم يعان الفاقة والعوز المادي، بل ربما عاش حياة فيها الكثير من الدعة ، ولكن رؤيته وفلسفته التي نجدها في شعره، فهي على الغالب تنبثق من شعور عميق بالشقاء، ولعل هذا الأمر ذو بالتكوين النفسي للشاعر وجبلّته الإنسانية التي فُطِر عليها. وواقع الحال أن هذه المسألة لدى أبي ريشة تذكرنا بشاعر كان يحمل شعوراً مماثلا أيضاً، هو الأمير عبد الله الفيصل الذي نشأ في أسرة ملكية حاكمة، وعلى جانبيه من الثراء والمظاهر البذخ الكثير والكثير، ولكن قصائده كانت تنزف وجعاً وحزناً قلّ نظيرهما.

للقضية الفلسطينية حضور كبير عند أبي ريشة حضور فلسطين في شعر أبي ريشة هل كان ذلك مثله مثل بقية الشعراء ام كان هناك تميز لأبي ريشة في هذه الناحية، والبعض يقول موضع القدس في شعره أكثر من حلب؟.'

يمكن التأكيد على أن قضية فلسطين منذ أربعينيات القرن الماضي وحتى وقت قريب، كانت القضية المحورية للعرب والمسلمين، وبما أنها قضية قومية مركزية، فقد ظلت الموضوع الأثير الذي يحظى باهتمام معظم الشعراء وليس أبو ريشة وحده، فضلاً عن أن الإيديولوجيا القومية كانت في تلك الفترة هي المظلة النضالية الأوسع لمجمل حركات التحرر العربي، أمّا تميّز أبي ريشه في حضور فلسطين في شعره فهو يعود إلى منهجه الفني الشعر وليس لموضوع فلسطين فحسب، فالشعر الذي كُتب عن فلسطين منذ احتلالها لا يُحصى، ولكن قليلة تلك القصائد التي ظلت محفوظة في وجدان الناس، ومنها قصيدة أبي ريشة التي يقول في مطلعها:

أمتي، هل لك بين الأمم           منبر للسيف أو للقلم

يعرف عن عمر أبي مناهضته للاحتلال الفرنسي وتوثيقه للأحداث السياسية توثيق أبي ريشة للأحداث ورثاء السياسيين وأثره في السياسة، إلامَ يشير هذا هل تعتبر من وظيفة الشاعر?

حضور القضايا القومية والوطنية في شعر أي شاعر، إنما يدلّ  على تفاعل الشاعر مع قضايا بلده ومجتمعه، فضلاً عن أن أبا ريشة كان منهمكاً في غمار الحياة السياسية آنذاك ولم يكن متفرجاً، لذلك من الطبيعي أن نجد في شعره حضوراً لافتاً للأحداث التي وقعت في تاريخ سورية والوطن العربي، إضافة إلى قصائده التي يرثي بها أصدقاءه السياسيين كقصيدته في رثاء سعد الله الجابري وإبراهيم هنانو وغيرهم، ولكن هذا الحضور لا يمكن اعتباره تاريخاً، ولا توثيقاً تاريخياً بالمعنى العلمي لمصطلح التوثيق، بل هو توثيق فني، يبقى حياً في الوجدان الجمعي للأمة.

ما موقع عمر أبو ريشة بين شعراء عصره، هل يمكن تصنيفه ضمن شعراء الحداثة؟ أم هو في حيّز الشعراء الكلاسيكيين?

إذا كانت الحداثة تعني الجوانب الشكلانية من الشعر، فبالتأكيد أبو ريشة ليس ضمنهم، وإن كانت الحداثة تعني رؤى وأفكار إبداعية جديدة، وطريقة في التفكير أيضاً جديدة، فبلا أدنى شك أبو ريشة واحد من طليعة الشعراء الحداثيين.

ما تقولون- كونكم تهتمون بالنقد - عن المذهب الشعري الذي اتبعه وهل هناك فترات تطور في منهج أبي ريشة?

أعتقد أن الشعر – من بين الفنون – لا يمكن تقنينه ضمن منهج محدد، وذلك على خلاف الفنون السردية الأخرى كالقصة والرواية والمسرح، ذلك أن الشعر ، وبحكم بنيته القائمة على التلميح والقول غير المباشر إضافة إلى كثافة الحس والوجدان وتدفق المشاعر.....إلخ لا يمكن إخضاعه لقوانين أو ضوابط قاعدية صارمة، من جهة أخرى يمكن القول: إن أبا ريشة أغنى موهبته الشعرية منذ وقت مبكر، بروافد ثقافية وإبداعية من خلال اطلاعه على الآداب الأخرى، إذا كان يتقن عدة لغات، أشهرها الإنكليزية والفرنسية، فكان واسع الاطلاع، وقد تأثر إلى حدّ بعيد – كما يؤكد هو ذلك ولا ينفيه – بالشعراء الرومانسيين الإنكليز، مثل شيللي وكيتس وبايرون، كما تأثر بإليوت، ولا ينفي أبو ريشة كذلك إعجابه بالشعراء الرمزيين الفرنسيين وفي طليعتهم بودلير. أعتقد أن شاعراً لديه هذه الموهبة المتفرّدة ولديه هذا الإقبال والانفتاح على ثقافات الآخرين وإبداعاتهم، بالتأكيد سوف يكون متفرّداً في إبداعه.