بطل المقاومة المرعشي وشيخ المجاهدين الحلبي
بطل المقاومة المرعشي أرسلان طوغُز عطا

د. عبد الجواد حردان

عاش البطل أرسلان لوطنه عاشقًا، ومات بحبه مغرَمًا، وغدا منزله في حي التحرير مأوى للطلبة والمرضى المسافرين والضيوف، لا يغلق له باب في وجه أحدٍ كائنًا من كان، ذلك هو ميراثه وتلك هي رسالته، حمَلها ما دام حيًّا وحمَّلها لأسرته من بعده.

كلما مرت ذكرى تحرير مرعش اقترن بها اسم البطل القومي أرسلان، فلقد كان قائدًا فذًّا حتى إنه ليضرب به المثال في البسالة والكفاح، ولعل من حسن المطلع أن يُستهل التعريف به بكلمات ولده الوحيد من نسائه الأربع السيد محمود ابن السيد نظمية البالغ من العمر سبعين عاما يقول: السيد أرسلان رجل عثماني مُبهر لين العريكة مقدام جري رقيق القلب يحب الناس جميعًا، فردٌ أفنى حياته لتحيا بها أمة، فحقق مراد الله من خلقِه له، فيا له من عبد مؤمن وروح تفانت بالكمال.

22 أرسلان بن عبد الله أحد قادة مدينة مرعش في طرد الاحتلال وتحريرها من سطوة العدو في حرب استمرت اثنتين وعشرين ليلة وهزم فيها العدو بعد احتلاله لها عدة سنوات، سابَقَ إلى قهرمان مرعش وحَلَباتِها دون أن يؤمر بذلك، فهو من مواليد 1883م بقرية فِنْدِق في منطقة كوكسن التابعة لمدينة مرعش، وقد توفِّي والده فاضطر وهو في مقتبل العمر للانقطاع عن دراسته، واشتغل في مزرعة برهة من الزمن ثم عملَ معلمًا لفترة مؤقتة في مدرسة ابتدائية بمنطقة كُوكْسِن، ومن ثَمَّ سافر إلى حلب ليكمل دراسته للعلوم الشرعية، ولما حطَّ رحاله في حلب أشار عليه والي حلب وابن عمه إسماعيل القاضي في العهد العثماني فقالا: يا سيد إسماعيل نقترح عليك أن تكون شرطيًّا بدلا من دراسة العلوم الشرعية، فأخذ برأيهما وأصبح شرطيًّا في حلب، وقد خاض الامتحانات وترقَّى حتى بلغ أعلى رتبة في سلك الشرطة العثماني، وكلِّف بوظيفةٍ مخابراتية ضد مخابرات البريطانيين في طرابلس الغرب فتجشَّم سنامها وعمل مفوَّضَ مراسلةٍ استخباراتي، ويومئذ كانت مرعش تحت احتلال الإنجليز ثم الفرنسيين وقد وقَّعوا حينها هدنة موندروس لوقف إطلاق النار؛ فما كان من السيد أرسلان إلا أن انطلق إلى مرعش دون انتظار أمر من أحد امتثالًا لليمين الذي حلفه على القرآن والعلَم والسلاح.

تأسيس جميعة الدفاع عن الحقوق ورئيسها الأول المنتخب أرسلان بن عبد الله

في قهرمان مرعش اتصل أولًا بقائدها البارز محمود لأنَّه هو من يقدِّر ظروف البلد ويوافق على ما ينبغي القيام به تجاهها، وهو من يسلم السلاح والذخيرة للمقاتلين، ثم اجتمع بعدة شخصيات قيادية في مزرعة أحدهم وقدروا معًا الظروف، واتفقوا على ضرورة تأسيس وتنظيم هيئةٍ تُعنَى بالأمر، وفي ذلك المجلس بيَّن لقادة مرعش ما فعله البريطانيون والفرنسيون من فظائع في بلاد الشام، فأجمعوا على تأسيس هذه الهيئة خوفًا مما هو أعظم وأفظع.

وعزَّزَت ضرورة تأسيس هذه الهيئة عنده كل من حادثتي إنزال الفرنسيين للعلم من فوق قلعة مرعش في 28-11-1919م وواقعةِ مقاومة البطلِ سوتجي إمام للفرنسيين في ثاني يومٍ قدموا فيه وهو يحاول ردعهم عن إرغام النساء في الشارع على كشف وجوههن بقوة السلاح.... 

وهكذا تأسست جمعية الدفاع عن الحقوق وانتخب أرسلان بن عبد الله رئيسًا لها. 

من خصائص القائد أرسلان أنه ما إن يفكر في خوض معركة حتى يجعل المدينة عشرة أعشار، لكل منطقة منها قائد ومعه 200 جندي مسلَّح؛ فإذا وقعت الواقعة واشتعلت الحرب كان لديه 2000 جندي على أهبة الاستعداد والجاهزية، يقول: لم نقاتل يومًا ما بالمجرفة والمطرقة، فسلاحنا وذخيرتنا ما نفذت في يومٍ ما قط، وجلُّ ما في أيدينا استنفذناه يوم 11 من شباط لعوامل عدة، وهكذا طهَّرنا قهرمان مرعش من العدو في 22 يومًا من المقاومة والكفاح العظيم، فقد حاصرنا العدو 22 يوما وليلة من جهة عنتاب وترك أوغلو، فلم يصلهم فيها أي ضرب من الإمدادات اللوجستية، ولم يُدنِفْ إلينا امرؤ منهم بأنفه في ذلك الحين، وكان قد تحصنوا في مبانٍ حجرية متينة فاقترح رئيس الجمعية أن يهيئوا للأرمن والنصارى خروجهم من الكنائس والبيوت بأمان ثم يحرِّق رجاله على العدو مناطق إقامتهم ليضطروا إلى الهرب منها، وقد كان: 

وحينئذٍ دوَّت كلمات أرسلان المسطورة في الصدور: إن اليد العليا لنا دائمًا، ولم تكن لهم يومًا.

"في حرب تحرير مرعش برزت موهبة أرسلان الاستخباراتية فأوحى إلى الجنود بالبحث عن أسلحة مدفونة في مناطق العدو المنهزم وأن عليهم أن يفكروا كيف يمكن أن يزودوا 2000 جندي بالسلاح على الدوام، واشتعلت في الحرب جبهتان شرقية وغربية، وكان البطل أرسلان على رأس الجبهة الغربية، وقد تكررت مراسلات البطل أرسلان إلى مصطفى كمال يطلب فيها الإمداد، فكان يطلب منه في كل مرة من المراسلات الأربع أن يتجنب بدء الحرب وأن يدير الأمور بحنكة ويتدبر أمر نفسه بنفسه؛ فالتزم بأوامره هذه أيضًا بادئ الأمر، لكن اقتضت محاولات العدو البائسة لجمه وقهره فأعلن المقدام أرسلان حرب التحرير يوم الجمعة، فوقعت الواقعة وطُرِدَ الفرنسيون من مرعش في حرب البطولات هذه، فقد سلموا مواقعهم ورفعوا الرايات البيضاء في 12 شباط، وكان آخر ما التمسوه من القائد أرسلان أن يُبقي على من بقي وراءهم من أعوانهم الأرمن ولا يقتلهم؛ فردَّ عليهم قائلًا: (هؤلاء مواطنون مثلنا، وحفظ أرواحهم أمانة في أعناقنا، فما داموا قد ألقوا السلاح فإنه لن يصيبهم أمر يكرهونه).."

ومن مرعش إلى عنتاب انطلق المقدام أرسلان ليشارك هو وجنوده في الدفاع عنها، ثم اختير عضوًا لمجلس الأمة التركي، ولما ذهب إلى أنقرة لهذه المهمة أبدى والي مرعش وقيادة الجيش في أضنة حاجتهم إليه فعاد إلى الجبهة، وبقي على الجبهات إلى أن طُرِد العدو من مناطق الجبهة الجنوبية كلها، ثم عاد إلى مجلس الأمة، وكان منتسبًا إلى حزب تَرَقِّي بَرْوَر بقيادة علي فؤاد جَبَصُوي، وقد اعتقل أعضاء هذا الحزب جميعًا بتهمة محاولة اغتيالٍ، وكان المقدام أرسلان أحدهم، فلبث في السجن 15 سنة، وفي عام 1944 ألزم بضريبة الثروة لإفقاره فباع جُلَّ ماله وسدَّد الضرائب، ولم يبق في يده سوى قطعة أرض في بازارجق، فكان يتصدق بنصف محصولها على الفقراء وينفق ما بقي على أهل بيته.

عاش البطل أرسلان لوطنه عاشقًا، ومات بحبه مغرَمًا، وغدا منزله في حي التحرير مأوى للطلبة والمرضى المسافرين والضيوف، لا يغلق له باب في وجه أحدٍ كائنًا من كان، ذلك هو ميراثه وتلك هي رسالته، حمَلها ما دام حيًّا وحمَّلها لأسرته من بعده، رحمه الله وتقبله في المجاهدين والصالحين.