كاتب وناقد أدبي سوري مفيد نجم: الإنسان هو منطلق وهدف كل نضال من أجل الحياة الحرة والكريمة.
بيرين بيرسايجيلي مُوت
ترجمة؛ جمعة تانيك


لم يكن هناك مصلحة لأحد إقليميا ودوليا أن تنتصر ثورات الربيع العربي

كانت علاقتي مع الشعرية العربية  الحديثة قوية وواسعة لكني وجدت أن فهم هذه التجربة واستيعاب جمالياتها وقيمتها الفكرية تحتاج إلى معرفة بالنقد 

إن الصعود الواسع للرواية جعلها تحتل موقع الصدارة الذي كان يحتله الشعر ما فتح أمامها آفاقا كبيرة 

في هذا الحوار يهمني أن أقدم مفيد نجم ناقد واديبا ومثقفاً مجتمعياً من طراز نادر لارتباط حياته الشخصية وكفاحه الاجتماعي والسياسي برؤيته النقدية وممارسته الفكرية. هل يمكنك أن تتحدث عن الينابيع الأـولى، والبدايات، ومصادر الولع بالأدب والنقد والانخراط في قضايا المجتمع من باب ثوري يعمل لأجل التغيير على مستوى النص والواقع، ومن ثم سيدفع ثمن ذلك إقامة طويلة في سجون الأسد الأب?

لا شيء يبدأ من لا شيء. هناك جملة عوامل موضوعية وذاتية تقف في خلفية تكوين بداية أي تجربة. ولما كان للمكان والبيئة الاجتماعية والثقافية دورها الحاسم في صنع هذه البدايات فقد كان من الطبيعي أن يكون لشقيقي الأكبر الذي كان ينتقل بين بيروت ودمشق ويحضر لنا الروايات والكتب الأكثر تداولا في النصف الأول من ستينيات القرن العشرين دورا هاما في هذا السياق، إضافة للمناخ السياسي فقد كنا أبناء قضايا كبيرة اجتماعية وسياسية في مرحلة تاريخية كانت تمور بالأفكار والشعارات وأحلام الثورة والتغيير، ثم كانت هزيمة حزيران المدوية عام 1967 التي خبرت تجربة التشرد بعد احتلال أرضي عاملا هاما في انشغالي بهذه القضايا. لقد لعبت الترجمة من الأدب والفكر الغربيين في تلك المرحلة دورا مهما في تعميق هذه العلاقة وفتح نوافذ كثيرة أمامي على الثقافات والأفكار الإنسانية عن الحرية والحداثة وأسئلة الذات والوجود. لكن القضية الاجتماعية ومسألة الحرية ظلت تتقدم على القضايا الأخرى عندي. كنت متمردا وذا نزوع كبير للحرية في تكويني منذ الطفولة وكانت الحرية التي تمنحني إياها الطبيعة هي المصدر الأساس لهذا الشعور. لقد كان هذا واضحا في موقفي النقدي من الحياة ورفضي للتأطير الإيديولوجي والسياسي والديني وانفتاحي على الحداثة وقيم التجديد والتطور. بدأت حياتي الأدبية شاعرا وحصلت على جائزة الشعر الأولى للشعراء الشباب في سوريا عام 1977. كانت علاقتي مع الشعرية العربية  الحديثة قوية وواسعة لكني وجدت أن فهم هذه التجربة واستيعاب جمالياتها وقيمتها الفكرية تحتاج إلى معرفة بالنقد ومدارسه الحديثة فاتجهت نحو تعميق معرفتي بها، لكن تجربة سجني الطويلة حالت دون استكمال هذه المعرفة. في مرحلة ما بعد السجن حاولت التعويض على هذا النقص فبدأت قراءاتي المكثفة مع محاولات أولى لتوظيف هذه المعرفة في دراسة بعض النصوص التي وجدتني مشغولا بتحليل ودراسة الظواهر الشعرية وجمالياتها من حيث البناء والتشكيل والدلالة. لاشك أن هذه التجربة قادتني إلى كشوفات مهمة وساعدتني في صيرورة هذه التجربة وتحولاتها على مستوى الرؤية واللغة والعلاقة مع الذات والعالم.

حدثني الشاعر نوري الجراح عن أن كتابك "أجنحة في زنزانة" كتب على مراحل، وأحياناً بضغط استثنائي منه، لأنه رأى في إهمالك لتجربتك الاستثنائية في السجن خسارة لوقائع ومعطيات تتعلق بك شخصيا وبجزء مهم من تاريخ سوريا السياسي لا يجب أبداً أن تغيب أو تختفي، ولأنه لمس أنك كنت تعتبرها ثمنا طبيعياً لكفاحك ولم تكن تريد أن تطلب من العالم ثمناً معنوياً لتلك التجربة. حدثنا عن تجربة كتابة هذا الكتاب?

اسباب كثيرة كانت تجعلني اتهيب الكتابة عن تجربة سجني. كنت وما زلت اعتقد أن الكتابة ما تزال عاجزة عن تمثل هذه التجربة المروعة بأبعادها الإنسانية والسياسية والوجودية والنفسية والروحية. لذلك لجأت بعد صدور كتابي( أجنحة في زنزانة) بثماني سنوات إلى إعادة كتابته من جديد. العامل الثاني كان الخوف من الاتهام بأني اسعى من خلال كتابة هذه التجربة إلى الحصول على مكافأة معنوية عنها. لقد اعتبرت هذه التجربة ثمنا لموقف اخترته بكامل وعيي وحريتي ولم أزل مؤمنا به كواجب أخلاقي وإنساني ووطني في مواجهة ديكتاتورية متوحشة. هنا لابد من الإشارة إلى الدور الكبير الذي قام به الصديق الشاعر نوري الجراح من أجل دفعي إلى الكتابة، لكني بقيت أحاول التواري خلف سطور الكتابة لأني لا أريد تقديم نفسي في هذه التجربة المهولة باعتباري بطلا على الرغم من الثمن الكبير الذي دفعته من حياتي وحياة أسرتي. منذ بدأت الكتابة أدركت معنى أن لا أقدم مجرد شهادة على واقع السجون المخيف والمعاناة الرهيبة التي عشناها فيها. لقد حاولت أن استعيد هذه التجربة بعمقها الإنساني والوجودي والنفسي الذاتي والعام بوصفها تجربة استثنائية أسست لتاريخ غير مسبوق من القمع والإرهاب المعمم والاستباحة بلغ حدوده القصوى خلال سنوات الانتفاضة السورية. لقد طرحت علي هذه التجربة أسئلة كثيرة تتجاوز المعنى السياسي إلى قضايا إنسانية ووجودية على المستوى الأخلاقي والعلاقة مع الزمان والمكان والذات والآخر والقدرة على مواجهة محاولات التحطيم النفسي والجسدي. لم تكن معركة السجين هي مع الجلاد وحسب بل ومع الذات في ظل ظروف لا إنسانية من القهر والتعذيب لسنوات طويلة. لذلك حاولت تجاوز المألوف فيما كتب عن هذه التجربة من خلال تجاوز ثنائية الجلاد والضحية والوصف إلى استعادة هذه التجربة بمعناها الأوسع النفسي والروحي والسياسي والوجودي لأني أردت أن يحضر الإنساني فيها قبل السياسي لأن الإنسان هو منطلق وهدف كل نضال من أجل الحياة الحرة والكريمة.

كناقد أنت تهتم بنوعين من الكتابة الادبية: الرواية والشعر. هل يمكن إعطاء نوع من الإجابة المكثفة عن نظرتك إلى قيمة الإنجازات الأدبية العربية المعاصرة في هذين الحقلين تحديداً لقارئ يجهل واقع الأدب العربي?

كانت الحداثة الأدبية العربية شعرية بامتياز منذ مرحلة التأسيس بدء من تجربة شعراء الرومنسية والكلاسيكية الجديدة، وحتى ولادة قصيدة التفعيلة وقصيدة الشعر الحر أو قصيدة النثر. لقد ترافقت هذه التحولات الشعرية مع صعود التيارات الفكرية والسياسية وبلغت أوجها في نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات وكان شيوع رموز البعث والولادة والخصب الأسطورية في هذه التجربة هو التعبير الرمزي والجمالي عن ولادة هذه الروح الثورية الجديدة للحياة. ما حدث كان نابعا من التأثير الواضح للثقافة الغربية وفي الآن ذاته من الحاجة التي كان يفرضها الواقع الجديد. إن جدلية هذه العلاقة كانت العامل الحاسم في صعود هذه الشعرية الحديثة وفي تراجع حضورها عندما بدأ الواقع العربي ينكشف عن أوهام النهضة والتقدم والحداثة وعن عجز الايديولوجيات عن تحقيق التغيير المنشود. اما بالنسبة للرواية فقد تاخرت قليلا في تفاعلها مع الرواية الغربية الحديثة حتى النصف الأول من ستينيات القرن العشرين وقد تميزت بنزعة التجريب والبحث التي ما تزال تحكم تطورها. إن الصعود الواسع للرواية جعلها تحتل موقع الصدارة الذي كان يحتله الشعر ما فتح أمامها آفاقا كبيرة لكنها ما تزال خاضعة في أغلب ما يكتب إلى تأثير الرواية الغربية عليها على مستوى أساليب السرد وتقنياته وتمثيلاته السردية.

الربيع العربي قدم فرصة للأدباء والشعراء السوريين والعرب لمواجهة أساليبهم الادبية والخروج على عادتهم اللغوية والتعبيرية، هل تظن أن الشعراء والادباء تلقفوا هذه الفرصة وامتحنوا قدراتهم على التغيير والتحديث وصولا إلى أدب جديد يتفاعل مع المنعطف التراجيدي الكبير في حياتهم?

الإضافة المهمة التي قدمها الربيع العربي للأدب تجلت في انفجار المكبوت الإبداعي خاصة عند الأجيال الجديدة. هذا الانفجار طرح تحديات جديدة لا سيما في المنافي الغربية على الكتاب والشعراء العرب لتطوير رؤاهم وآليات الكتابة والتعبير عندهم، لكنه في الآن ذاته خلق حالة من فوضى الكتابة خاصة مع تنامي دور وسائل التواصل الاجتماعي وعجز النقد العربي عن ممارسة دوره في إقامة علاقة حوار مع هذه التجارب.  هناك تجارب قليلة ارتقت بالحدث التاريخي بابعاده الإنسانية والوجودية إلى مستوى مميز من الإبداع لكن للأسف تحاول مؤسسات الثقافة الرسمية عربيا أن تتجاهله.

ما هو تقييمك للمنجز الشعري العربي اليوم، لا سيما الذي كتب ويكتب في المنافي، خصوصاً لدى الأجيال الجديدة من الشعراء?

من المبكر الحديث عن دور المنافي في خلق ظاهرة أدبية جديدة عند الأدباء والشعراء العرب لان استيعاب هذه التجربة بأبعادها الإنسانية والوجودي والثقافية يحتاج إلى زمن ووعي قادر على تمثل هذه التجربة وتمثيلها. هناك مشكلة عند الكثير من الشعراء والروائيين رجالا ونساء تتجلى في الجهل بواقع التجربة الأدبية والانقطاع عن التواصل معها، إضافة إلى المعرفة الحقيقية بالطاقات الخاصة التي تمتلك اللغة العربية على المستوى البلاغي والشعري وأحيانا على صعيد قواعد اللغة. لذلك يتسم أغلب ما يكتب بالتقليد والسطحية التي تفتقد إلى العمق والتنوع في الرؤية واللغة والتشكيل والقول. كان يمكن للمنافي أن تدفع باتجاه آخر من الإبداع الأصيل لكن تحول الشعر إلى ساحة يختلط الحابل بالنابل فيها جعله يفتقد إلى قارئ فلجأ الكثيرون/ الكثيرات إلى وسائل أخرى من أجل الظهور.

تعرض الربيع العربي لضربات قاصمة من قبل نظم الاستبداد ورعاتها، وإلى إهمال حقيقي من العالم الذي شجع الاجيال العربية الجديدة على الانخراط في ميادين التغير الاجتماعي والسياسي.. هل تظن أن فكرة التغيير خبت أو في سبيلها إلى أن تخبو عربياً، أم أن الرماد ما يزال يخفي الجمر?

لم يكن هناك مصلحة لأحد إقليميا ودوليا أن تنتصر ثورات الربيع العربي. لقد تآمر الجميع عليها بطرق خاصة تخدم مصالحه السياسية على حساب مصالح شعوب تلك البلدان. النتائج المأساوية  التي انتهى إليها هذا الربيع الدامي تدل على صراع مصالح هذه القوى. لقد عمل الجميع على استثمار التناقضات الاجتماعية والطائفية لتحقيق مصالحه. هذا الواقع ادخل الثورات في حروب وصراعات جانبية على حساب قضايا الحرية وإسقاط الاستبداد. لقد جرت سرقة هذه الثورات التي خرجت تطالب بالحرية والعدالة واستعادة حقوقها من خلال تحويلها إلى صراع على السلطة يقف وراءه أطراف دولية وإقليمية ومحلية.