ومن أراد أن يسلك درب فن الخط الأصيل فعليه أن يتحلى بالصبر والأناة والعشق والإخلاص والمجاهدة حتى

                                                                                                                                         
تحدثنا مع خطاط حلب محمد عماد مححوك للمجلة المشتركة

هناك تقارب في الكثير من العادات والتقاليد وتشابه كبير جداً وتصاهر بين العائلات العربية والتركية بحلب

فأحسست بأن اللوحة والفن مرتبطين للتأكيد على الوجود والحياة والتفكر وتذوق الجمال وهي ضد كل صور الحرب وبشاعتها

والمصدر الأساسي للكلمة التي أخطها هي من القرآن الكريم

لا ننتظر ما يقدمه الغرب من وجهة نظره من الشيء القليل تجاه ما لدينا من تاريخ وحضارة وفن وتفرد وجمال لا نظير له .يجب علينا إعادة كتابة تاريخنا بأنفسنا


أنت من حلب. كانت مدينة حلب على مفترق طرق مهم من الأناضول إلى بلاد ما بين النهرين ، من البحر الأبيض المتوسط ​​إلى إيران عبر التاريخ. لها تراث تاريخي وثقافي عظيم. نعلم أنه كان هناك تفاعل كبير بين فناني حلب واسطنبول في العهد العثماني. كيف تقيم هذا الدور الرائد لحلب؟

 حلب … هي أقدم وأعرق مدينة مأهولة في التاريخ، تقع على مفترق طرق مهمة بين الشرق والغرب.. الشمال والجنوب، أعطاها موقعها الجغرافي لتكون مركزاً للحضارات القديمة والهجرات ومرور القوافل التجارية ومركزاً للصناعات والحرف والفنون عبر القرون

مدينة غنية في كل شيء، في حجارتها المميزة وعمرانها والعلاقات الاجتماعية والفنون المميزة، فصارت بوتقة كبيرة تصهر كل تجارب الأمم والحضارات التي مرت عليها وأثرت فيها وبالتالي كانت حلب فاعلة في كل نواحي الحياة عبر الزمن.

لن أكون منصفاً في الحديث عن مدينتي التي أعشق ويطول الحديث عنها ولن أفيها حقها، فقد تغنى فيها الشعراء والأدباء والرحالة والفنانون وعشقوا تلك المدينة الفريدة المتفردة حتى في لهجة الحلبيين تجد كلمات ومفردات ومصطلحات من العربية والتركية والسريانية والآرامية القديمة.

وفي العهد العثماني كانت تعتبر حلب الولاية الاقتصادية والتجارية والصناعية للدولة العثمانية بعد إستانبول والقاهرة، فيها الزراعة ومعامل النسيج والقنصليات الغربية لها وجودها الأسبق في حلب، إضافة إلى خاناتها وسوقها الكبير الذي يشبه كثيراً السوق المغطى في إستانبول، وقيل قديماً أنه إذا ألمت ضائقة اقتصاديه فإن حلب تسندها وتدعمها

هناك تقارب في الكثير من العادات والتقاليد وتشابه كبير جداً وتصاهر بين العائلات العربية والتركية بحلب، فأنا مثلاً جدي عربي وجدتي تركية الأصل، عندما أزور المدن التركية إستانبول خاصة لا أجد أي تغيير وأي غربة، هناك تشابه كبير

وفي عام 2006 اختيرت حلب كعاصمة للثقافة الإسلامية، كانت لعدة شروط حققتها أولاً حلب بعد مكة المكرمة، لما تحويه من كنوز وآثار تمتد من عصر الخلفاء الراشدين إلى الأمويين والعباسيين والمماليك والأيوبيين وحتى العثمانيين …كنوز من الثقافة الإسلامية جوامعها ومدارسها ومستشفياتها وقلعتها الشامخة التي أخذت طابعها الأخير من العصر الأيوبي والتي تعتبر أكبر وأحصن قلاع العالم وأجملها.

هل يمكنك أن تخبرنا قليلاً عن أيام طفولتك في حلب وأول لقاء لك مع فن الخط؟

 ولدت في مدينة حلب عام 1959 وقضيت طفولتي وكل مراحل حياتي فيها إلى عشر سنين خلت، درست في مدارسها وجامعتها، وعشقت تلك المدينة الأجمل بفنونها وعمارتها وحجارتها بأسواقها ورائحة الطيب والصابون بموسيقاها وغنائها بتراثها وثقافتها الغنية وقلعتها وجامعها الأموي الكبير

وعشقي للخط بدأ بسن مبكر في السنة الأولى الابتدائية عند تعلمي الأحرف الأبجدية كتابة، وكانت ملاحظات وثناء المعلم مشجعة لي دوماً وحافزاً وامتيازاً كبيراً وتميزاً بين أقراني في الصف، حتى مرة قال لي أن "واوك جميلة" هذه الجملة بغبطتها الأولى وفرحي بها استمرت معي طيلة حياتي وأعتقد أنها النواة الأولى لذلك العشق الأبدي

لكن كان لدي وعلى مدى سنين عديدة بعدها مخزون كبير من الجمال البصري الخطي والكتابة تتمثل وتتجسد أمامي من خلال خط والدي - رحمة الله عليه ومغفرته -الذي كان نموذجاً أمثل أحاول تقليده في كل التفاصيل. لم يكن والدي خطاطاً محترفاً لكنه يكتب بأسلوب جميل لم أجده في غيره من كبار الأساتذة …خطه العادي وخاصة بقلم الرصاص، كان موظفاً محاسباً يحضر جميع ملفات الأسماء والأجور والحسابات لكل العاملين شهرياً ويدوياً. كانت الحروف تنسكب من خلال أصابعه جميلة متقنة وكأنها سكت من ذهب … حتى قلدته في توقيعه الذي يشبه الطغراء وكنت ناجحاً إلى حد كبير في التقليد. فكان هو أستاذي الكبير والأوحد وبدون أي شرح منه، فقط النظر إليه وهو يكتب بكل حب وعشق يمنحني مالا يمكن أن أجده حيث لم يكن لدي أستاذ مباشر إلا من خلال محاكاة الكتابات الموجودة في الكتب والصور، وهي طريقة صعبة للغاية حيث لا توجيه من أستاذ. كان دافعي هو العشق الذي امتلأت به روحي من خلال خط والدي الذي أعانني على الصبر الكبير ولزمن ممتد طويل … حتى لعام 1990 حيث قابلت الأستاذ حسن جلبي في إستانبول وحضرت عنده درسين فقط كانا عبارة عن استكمال وتصحيح الطريق لبعض التفاصيل وبلورة الحروف في خط الثلث

كما نعلم أنك تخرجت من كلية العلوم قسم الفيزياء النووية ودرست الرياضيات. العلاقة بين الخط والرياضيات مثيرة للاهتمام حقًا. كيف وصلت الى هذا الوعي؟

 درست وتخرجت من جامعة حلب كلية العلوم قسم الفيزياء النووية ، وذلك لحب الرياضيات وطريقة التفكير الرياضي والفضاء الواسع والحرية اللذان هما أساس علم الرياضيات والذي يماثل فضاء الخط وهندسة الحروف وتلك المعاني والأسرار والخفايا من بين تركيب الحرف والمعنى، والمصدر الأساسي للكلمة التي أخطها هي من القرآن الكريم بإعجازه اللغوي الذي أمدني بفضاء رحب فسيح لأعبر عن جمالية الكلمة والنص ما استطعت لأقترب رويداً رويداً ولأصعد باستمرار على سلم يمتد إلى ما شاء الله في فضاء لانهائي …فدراستي ساعدتني في الولوج في هذا الفضاء والدخول فيه بقدرات أوسع بكثير من الدراسة التقليدية والمحاكاة المباشرة لتعاليم أستاذ قد يقيد حرفي بتعاليمه وطريقته والتي لا أستطيع ربما الخروج منها فأصبح نسخة أخرى ليد خطاط آخر . وقد قيل قديماً الخط هندسة روحانية ظهرت بآلة جسمانية.

لماذا واجهت الكثير من العقبات في بلدك عندما كنت مشغولاً بفرع فني مثل الخط الذي له تاريخ عميق الجذور وليس له محتوى سياسي واضح؟ هل هذا بسبب عداء النظام السوري لجذوره؟

 في لقاء لي مسجل مع التلفزيون الرسمي بعد أن أقمت معرضي الأول للخط العربي في مدينة حلب في صالة بلاد الشام ، كانت الأسئلة في الحوار بسيطة للغاية وسطحية وساذجة إلى حد كبير فقط تعداد لأنواع الخط ، وأثناء الحوار تحدثت بعمق أكبر ونظرة أعمق وشرح لما نملك من كنوز في تراثنا للمخطوط والخط العربي أفضل لما هو سائد ومكرس ومتعارف عليه ، فدهشت المذيعة بما أتحدث وذكرت بأنها لم تتعرف على الخط العربي إلا في هذه المقابلة ، لكن كنت قد ذكرت كلمة القرآن الكريم عدة مرات من خلال سردي عن عملي وأي نصوص أختار للوحة والمخطوط ، فطلبت مني مباشرة أن أقلل من ذكر القرآن الكريم …إلى هذا الحد … كانت مفاجأة لي رغم معرفتي بهم ، وبطبيعة الحال لم تنشر تلك المقابلة حتى الآن  

هذه الحالة البسيطة تلخص كل ما كان من جهل وتجهيل متعمد واهمال وقطيعة كاملة لكل ما يتعلق بفن الخط والتراث الفني وعدم دعمه بكل المستويات، بل ومحاربته بشكل خفي ولم يعترفوا به كأحد أبرز الفنون الإسلامية وأجملها فقط لارتباطه بالتاريخ المجيد والتراث والقرآن الكريم. ولم يستمر هذا الفن إلا بجهد فردي صعب للغاية من قبل قلة من الخطاطين

أعتقد أننا نعلم أنه جاء إلى اسطنبول لفترة في أواخر الثمانينيات وعمل في مكتبة السليمانية للمخطوطات. هل يمكنك إخبارنا قليلاً عن تلك الفترة؟ هل قابلت أي مدرسين لا يمكنك نسيانهم؟

 في عام 1990 قرأت خبراً في الجريدة عن إقامة دورة لترميم المخطوطات بمركز الأبحاث للتاريخ والثقافة والدراسات الإسلامية بإستانبول.

IRCICA    

 فتجهزت وسافرت خلال أيام وزرت المركز مباشرة للالتحاق بتلك الدورة، ولم أعرف أن المشاركين فيها معدة أسمائهم من قبل منظمة المؤتمر الإسلامي، لكن الإدارة آنذاك متمثلة بالأستاذ الكبير أكمل الدين إحسان أوغلو وافقت على التحاقي بالدورة من أولها بحضور استثنائي لم يكن مقرراً سلفاً. فكانت بداية جديدة لي حقيقة بكل تفاصيلها، درست ترميم المخطوطات بمكتبة السليمانية، وكان عطاء الأساتذة جميعاً وبدون استثناء عطاءً كبيراً بكل ما استطاعوا   

بقية الطلاب كانوا من الأتراك وأذربيجان وبعض من الدول الأفريقية ممن يعملون في ترميم المخطوطات في الأرشيف الوطني ببلدانهم، لكن كان عملي مميزاً ومتقناً أكثر منهم ، وكان الأساتذة يسألونني هل كنت أعمل في الترميم سابقاً ، فأجيبهم بلا … لكن يدي التي تدربت على الخط كانت سباقة أيضاً في اتقان العمل في مجال الترميم . ولعلم الكادر التدريسي بأني خطاط أو طالب خط ، كانوا كل يوم يتحفوني برؤية تلك الكنوز من اللوحات والمخطوطات النادرة الفائقة الجمال والإتقان الموجودة في المكتبة ، إضافة إلى اعطائي التجارب والأسرار  والعلم الأكاديمي في تركيب الحبر وأنواعه وتحضير الورق والتعامل معه وقهره والذي استفدت منه كثيراً فيما بعد في انتاج لوحاتي ومخطوطاتي … وهذا فضل كبير منحوني إياه بكل محبة وعناية …وحتى مكان الدورة مكتبة السليمانية والجامع والمنطقة الأثرية الرائعة لم ولن أنساه أبداً وهو المكان الوحيد الذي أعود إليه بين الحين والآخر عندما تضيق بي الحياة اليومية ويكون الحنين وألمه لشوارع حلب وحجارتها وذكرياتها التي دمرت بمعظمها ولم يبقى لي سوى ذكرى جامع ومكتبة السليمانية

نعلم أن لديك لوحة خاصة تخبرك بما تحبه أكثر أثناء العمل. اسم؛ طلب إخلاص. سورة الفاتحة مع الزخرفة المملوكية في بدايتها ، سورة الكهف حولها ، سورة فقيه في نهايتها والجسم الرئيسي للوحة ليست فقط سورة الإحساس؟ يجب أن يكون من الصعب جدًا وصف لقاء آيات القرآن بفن الخط والعاطفة التي تشعر بها كفنان. هل يمكننا أن نطلب منك التحدث قليلا؟

 لوحة عنوانها – الإخلاص – تحتوي بعض من سور القرآن الكريم، وهي على شكل لفافة بطول / 1065 سم. وبعرض / 16 سم. الورق صناعة يدوية من نوع خادي واللون عاجي

فيها أربع سور من القرآن الكريم، الأولى هي سورة الفاتحة بخط الريحاني وبحبر بني مغيمة بالذهب عيار / 24 قيراط ولها إطار زخرفي من الطراز المملوكي

تليها البسملة وسورة الكهف الممتدة بشكل كامل على محيط اللوحة، ثم تأتي تكملتها بشكل عمودي وبخط الريحاني ومغيمة باللون الأحمر والأخضر وبفواصل بين الآيات مذهبة وداخل بعض الأحرف باللون الأحمر

في النهاية سورة الإخلاص بخط الريحاني والحبر البني أيضاً مذهبة بالطراز المملوكي

يلي سورة الكهف مباشرة شريط بالخط الغباري بالأزرق الداكن ولفظ الجلالة باللون الأحمر والنص هو كتاب الأدعية – حزب أنوار الحقائق النورية – بعد سورة الكهف زخرفة رأسية من الطراز المملوكي تبتدئ به تشكيلات مختلفة ومنوعة لسورة الإخلاص مكتوبة بمختلف أنواع الخط العربي وبألوان من الحبر البني والأسود والأزرق والأخضر والأحمر الهندي

تبدأ ببسملة بطريقة الخطاط ابن البواب من القرن الرابع الهجري وسورة الإخلاص بخط الريحاني، ثم كارا لمة – مشق – بخط الثلث والنسخ، ثم بسملة بطريقة الخطاط احمد القرة حصاري من القرن العاشر الهجري يليها تشكيل آخر بخط الريحاني محاط بالإخلاص بخط الغباري

ثم كوفي مربع باللون الأزرق اللازوردي, يليها بسملة بخط المسلسل مع الإخلاص على أرضية مزخرفة هندسياً

الإخلاص بخط الجليل المحقق مزمك بالذهب وبفواصل مذهبة. كوفي مربع مزوي بتشكيل آخر مرآتي، ثم زخرفة هندسية مربعة الشكل تتضمن الإخلاص بالغباري مكررة بعدد من الألوان 

الإخلاص بخط الثلث دائرية باللون الأحمر بطريقة الخطاط عزيز الرفاعي

الإخلاص بخط الثلث دائرية الشكل، ثم جلي الثلث بطرقة الخطاط سامي أفندي بالأزرق اللازوردي, بعدها الإخلاص مكررة على خمسة عشر مربعاً

لفظ الجلالة بخط الكوفي الفاطمي بداخله لفظي الجلالة الله وأحد بالغباري وبزخرفة غباري وخلفية تحوي سورة الإخلاص مكررة بالخط الغباري أيضاً، يليها بسملة بخط المسلسل ثم بطريقة الخطاط حامد الآمدي, الإخلاص على ثماني مربعات مكررة, ثم واحدة بخط الجلي محقق والمحقق

ثم الإخلاص بخط الكوفي القديم من القرن الأول الهجري يليها بخط الكوفي المشرقي من القرن الخامس الهجري ثم الاخلاص بخطوط منوعة أخرى تبدأ بالنسخ ثم النسخ المغربي والرقعة والديواني والجلي ديواني والنسخ تعليق

بعدها سورة الواقعة وبشكل عمودي بخط الريحاني وبحبر بني وتغييم اخضر بفواصل مذهبة

البسملات متنوعة من عصور مختلفة، إضافة إلى أن أسلوب زخرفة كل تشكيل لسورة الإخلاص يتوافق مع نوع الخط وزمانه وأسلوبه

خاتمة اللوحة تحمل توقيع الخطاط محمد عماد سنة 1425 هجرية

اللوحة محفوظة ضمن علبة خاصة مصنوعة من الفضة بطريقة " كسر الجفت " وتحمل عنوان اللوحة – الإخلاص - بشكل مرآتي

هذا وصف دقيق وتفصيلي لهذه اللوحة التي استغرق العمل لإنجازها / 18 شهراً، علمتني حقيقة الإخلاص في العمل والحياة. وقد قال عنها الناقد الفني أسعد عرابي حين رآها أنه لم ينجز منذ مئة عام خلت عملاً فنياً متقناً وجميلاً بهذا الشكل في فن الخط والمخطوط العربي

لقد قمت بعمل هائل من خلال التبرع بالدخل الذي كسبته خلال حرب غزة للشعب الفلسطيني. لوحة خاصة بالقدس .. ما قصة ظهور هذه اللوحة؟

 أثناء العدوان الإسرائيلي على غزة عام 2008 كان التعاطف الكبير كالعادة من الشعب السوري تجاه اخوانهم الفلسطينيين لوقف العدوان ومد يد العون ومساعدة أهلنا في غزة الذين يتعرضون لكل أنواع القتل والتدمير في حرب غير متكافئة ، فكان لابد من المشاركة ي أي عمل يساهم ولو بحده الأدنى للوقوف إلى جانب الأخوة ، فكان انجاز عدة لوحات عن القدس وهي القضية المركزية والمحورية لكل العرب والمسلمين , إضافة إلى تصميم مميز للشماغ الفلسطيني وهو غطاء الرأس المشهور به العرب والفلسطينيين خصوصاً ،فأدخلت كلمة القدس بالخط الكوفي وحولت الكوفية الفلسطينية إلى لوحة بالخط الكوفي وتوضع على الرأس ، وكان ريع الأعمال كافة لصالح الأطفال والشعب الفلسطيني

إنه لشرف عظيم لنا أن نكون في بلادنا. كم سنة كنت تعيش في اسطنبول وهل قمت بتدريس الطلاب الأتراك من قبل؟

 كان لدي طالبة تركية تعيش في مدينة غازي عنتاب، زرتها قبل أن أقرر السفر والمجيء إلى إستانبول، جلبت معي لوحاتي التي كنت قد أنجزتها بحلب تحضيراً لمعرض، لكن خوفي على تلك اللوحات دعاني إلى نقلهم إلى عنتاب لكي أضعهم في مكان آمن، حيث كانت الحرب والقصف وتدمير حلب قد بدأ

طرحت على الطالبة فكرة المجيء والانتقال إلى تركيا … فكان جوابها السريع أنها تتمنى ذلك وأنني سأكون إضافة كبيرة ومهمة للخط والفن بتركيا، مما شجعني أكثر حقيقة لمغادرة حلب بكل آلامه والتوجه نحو إستانبول التي كانت ومازالت قبلة الكتاب والخطاطين

لدي العديد من الطلاب أدرسهم الخط بشكل فردي حيث لا وجود لمعهد أو وقف أستطيع التدريس به، وقد طرح علي التدريس في جامعتين في استانبول، لكن للأسف الشديد لغتي لم تسمح لي بذلك …وأنا عموماً متفرغ أكثر لإنجاز اللوحات الأصلية والمخطوطات

كفنان ، لقد تأثرت بهذا الموقف جسديًا وعاطفيًا. في خضم كل هذه المشاكل المعقدة ، في رأيك ، ما هي مهمة الفن أو ماذا يجب أن تكون؟

 أمضيت عام 2012 كاملاً في حلب ولم أنجز سوى لوحة واحدة لا تستغرق بالأحوال الطبيعية اسبوع واحد، وبصعوبة بالغة في ظل الحرب والتدمير والقتل اليومي والنزوح من بيت لآخر

نقلت لوحاتي إلى مدينة عنتاب أولاً.. ثم عدت لحلب أجمع أوراقي وأقلامي وما استطعت حمله من أدوات الخط وأغادر نهائياً إلى إستانبول حيث كان لي اتفاق مع صالة فنية لإقامة معرض خطي والذي أكملت إنجاز بقية اللوحات في إستانبول

وبعد ستة أشهر أقمت المعرض في صالة شلبي للفنون،

وقد لاقى نجاحاً وقبولاً رائعاً من الحضور فهو تراثهم أيضاً قدمته بصورة غير تقليدية من اللون والتشكيل والنصوص. منحني ذلك وأعادني إلى ذاتي وبدد الكثير من احساسي بالغربة فهنا وجدت وطناً آخر يشبهني، فقد كنت من الداخل متعباً للغاية، فصور الدمار والخراب لا تفارقني والصعوبات الجمة في مدينة كبيرة كاستانبول، إضافة إلى القلق المستمر لوجود بقية العائلة في حلب

أحسست أن كل لوحة أبدأ بها هي عبارة عن تأكيد جديد وكبير أني أولاً مازلت حياً ولدي القدرة والحب للحياة وتقديم الجمال لجمهور حاضر

فكانت اللوحة الملاذ الأخير لي ، وكل بناء في تشكيلها وتكوينها وحروفها إعادة لترتيب فصول الحياة من جديد ، واللوحة بالنسبة لي هي لمجابهة التدمير والقتل .إنها بناء وألوان ومعاني وهي المساحة الوحيدة لممارسة أجمل ما عندي رغم كل الألم الداخلي ، فأحسست بأن اللوحة والفن مرتبطين للتأكيد على الوجود والحياة والتفكر وتذوق الجمال وهي ضد كل صور الحرب وبشاعتها

هل هناك فنانون في جغرافيا تركيا ، من الماضي أو اليوم ، يمكن أن يلهمك أو يصنع لنفسك اسمًا بأسلوبهم؟ ما هي الجوانب ، إن وجدت ، التي تود ذكرها؟

 منذ البدء في المرحلة الثانوية عندما بدأت بدراسة الخط بشكل قواعدي، كان الأساتذة بالنسبة لي هم من الخطاطين العظماء أمثال سامي أفندي ومصطفى الراقم وحليم وشوقي … وآخرهم حامد الآمدي الأستاذ الكبير والفنان العظيم … وغيرهم كثير، إضافة إلى الخطاط أحمد القره حصاري الذي أثر بي أشد التأثير وتعلقت به أشد التعلق، وكانت مفاجأتي عظيمة عندما رأيت كتاباته لأول مرة في جامع السليمانية، حسبته أمامي وكأنني أحدثه ويحدثني عياناً من خلال رشاقة حروفه وقوتها وتراكيبه الرائعة وخاصة في خط المحقق الذي أعشق

تعلمت من اولئك العمالقة من خلال صور اللوحات والمخطوطات وآثارهم في المساجد

وذلك من خلال محاكاة أعمالهم واسلوبهم في الحرف والتركيب واكتشاف خصوصية كل واحد منهم وجلهم من الفترة العثمانية، هؤلاء هم أساتذتي رغم أني لم ألتق بأحد منهم

ما هو نوع الافتتاح الذي تود طرحه على القضية التي تمت مناقشتها لقرون مع موضوع "الفن للفن أو للمجتمع"؟ ما هي جوانب الخط التي تختلف عن فروع الفن الأخرى من حيث القيمة التي يضيفها للمجتمع؟

 كان حسن الخط يدرس في المدارس الابتدائية والإعدادية والتكايا.. وكان الاهتمام به أساسياً وكبيراً جداً بكافة المستويات، يبدأ من معلم الصف الأول إلى أعلى مستوى في الدولة، وكان الخليفة العثماني من أكبر المهتمين والداعمين لهذا الفن وكثير منهم مارس الخط ولهم آثار خطية. فكانت الذائقة الجمالية منتشرة بشكل كبير بين الناس بعامتهم وخاصتهم فهو فن يرتبط بالدين والقرآن الكريم والأخلاق والجمال والعمارة والمساجد والتصوف، فكان للخطاط مكانة كبيرة وتقدير واحترام وحظوة عالية من قبل المجتمع، شكل حافزاً مستمراً لكي يقدم أسمى ما عنده، لذلك وصل الإبداع والإتقان إلى درجات عالية وسامية، والتفاعل الكبير بين الفنان الخطاط والمجتمع تفاعلاً قل نظيره في مجتمعات وفنون أخرى

فالفن للفن هنا غير وارد، فهو أشبه بمن يأسر ويقيد اللوحة ويضعها وراء جدران مغلقة عالية لا يصل ولا يتواصل معها أحد، اللوحة هي أقصى ما يتمتع به الفنان من الحرية …ولا يكتمل جمالها إلا من خلال تفاعل الناس معها ونقل تلك الأحاسيس والمشاعر والأفكار والمعاني إلى الطرف الآخر المتلقي والمشاهد بدرجة من الدرجات

نرى اليوم أن الفروع التقليدية للفن قد تم اكتشافها للتو ، كما تم إجراء العديد من الدراسات حول "الأنماط الهندسية وعلم الجمال الإسلامي" ، خاصة من قبل الغربيين. يتم إنشاء ورش عمل خاصة ومعاهد ومنصات مستقلة للفنون الإسلامية في البلدان الأوروبية. مرة أخرى ، يبدو أننا نتعلم بشكل غير مباشر ما هو لنا ، بما يتماشى مع فضولهم. كيف تقيم هذه التطورات؟ كيف تتغلب على غربة المجتمعات الشرقية عن تراثها الثقافي؟

 للأسف الشديد نحن مقصرون جداً في شأن تراثنا الثقافي وتاريخنا وشخصيتنا المشرقية وبما نملكه من غنى وثراء يفوق الخيال حقيقة …لا أقول هذا تحيزاً كوني أعمل بالخط، ولكن تاريخنا ومتاحفنا مليئة باللوحات والمخطوطات والعمارة والحضارة ممتدة عبر مئات السنين … كنز كبير حقيقي لكنه يحجر في غرف مغلقة والاهتمام به ضعيف، كم هائل من الجمال والعبقرية

وما تلك المعاهد والمنصات للفنون الإسلامية في البلدان الأوربية على أهميتها لكنها لا تكفي لإلقاء الضوء على كنوزنا …لا بد من العناية بما نملك وبما تركه لنا أجدادنا وهو محل فخرنا واعتزازنا ،ويجب علينا نحن أحفادهم وليس الآخرين اكمال مسيرتهم بمزيد من الجهد والدراسة وإقامة المعارض على مستوى العالم ، فما نملكه هو إضافة حقيقية للبشرية جمعاء ، وعلينا أن نقدم أنفسنا بمزيد من الثقة ولا ننتظر ما يقدمه الغرب من وجهة نظره من الشيء القليل تجاه ما لدينا من تاريخ وحضارة وفن وتفرد وجمال لا نظير له .يجب علينا إعادة كتابة تاريخنا بأنفسنا

هل لديك أي اقتراحات ملموسة لجيل الشباب لاكتساب طعم للفن؟ ما المسار الذي يجب أن يسلكوه ، وأين يجب أن يبدؤوا؟

 الشباب هم المستقبل …ومن أراد أن يسلك درب فن الخط الأصيل فعليه أن يتحلى بالصبر والأناة والعشق والإخلاص والمجاهدة حتى …سيجده …ويصل إليه لكن بصعوبة وبحث دائم وطريقه لانهاية لها …وخاصة في هذا الزمن السريع المليء بالتناقضات والسطحية وحتى التفاهة في كثير من الأحيان …

والشيء المهم هو العناية بأولئك الشباب وتقديم ما يحتاجونه من كليات ومعاهد تعنى بهذا الفن الأصيل وإقامة المعارض المستمرة والدراسات المعمقة لتراثنا الجمالي ونشرها على أوسع نطاق ممكن، بدءاً من المدارس الابتدائية وصولاً الجامعات والوزارات المعنية بالثقافة

منذ أكثر من عشرين عاماً أقام مركز الأبحاث للتاريخ والثقافة الإسلامية في إستانبول مسابقة لفن الخط على مستوى العالم وتتكرر كل ثلاث سنوات، كان من نتائجها الايجابية إعادة الاهتمام بشكل لافت بالخط واللوحة ومشاركة الآلاف بتلك المسابقة التي شكلت حافزاً جيد جداً وأعادت الاهتمام بفن عظيم كفن الخط …وهذه خطوة يلزمها خطوات كثيرة ومتعددة في هذا المجال … لاستعادة هويتنا الحقيقية التي هي فخر وعزة لنا بين الأمم كافة