نور الدين زنكي: قنديل الشرق

علي إيمره

 

في الوقت الذي فقد فيه الفكر الإسلاميّ والتوحيد روحه، وانتشرت عشرات الخصومات بين الإمارات والدويلات، وانتشرت فيه الخرافة وأحاطت بالمجتمع والحياة كإحاطة نبات القرّيص، استطاع نور الدين الزنكي أن يكوّن مثالاً عابراً للزمن ومتخطياً للحدود..

لم أرَ بعد الخلفاء الأربعة الرّاشدين وعمر بن عبد العزيز أفضل ولا أعدل من نور الدّين زَنْكي

قائد عظيم كان يكسب قوته وقوت عائلته بنفسه، وقد اشْتُهِر بأنّه أكثر حاكم أنشأ المدارس ومجالس العلم بعد الوزير نِظام المُلْك.

   

كان نور الدين زنكي (1174-1118) من أشهر القواد الذين نجحوا في السباحة عكس التيّار في زمنه من خلال تصديه بدون فتور ولا هوادة  وعلى جبهات متعددة للحملات الصليبية التي كانت تهاجم وتتكالب ليس فقط على الشرق الأوسط بل من أراضي الأندلس إلى شمالي أوروبا إلى بقاع كثيرة من العالم في القرن السابع الهجري، هذا القائد المهم الذي أضاء مشاعل العزة فوق قممها واحدة إثر الأخرى، لم يكن مثار الإعجاب والمديح من التركمان فقط بل كان محط ذلك من كلّ المسلمين، وقد أصبح للمسلمين الذين كانوا في ذلك الزمان يعيشون حالة من التشتت والتفرق شبيهة بما عليه حالنا في بلاد المسلمين اليوم، صار لهم قنديلاً هادياً وسيفاً قاطعاً وترساً واقياَ.

فكان من جهة قد جمع في حلب ما كان فيها من أهل الصناعة والفن والعلم والجهاد وفنون الحرب والحياة من العرب والتركمان والأكراد مما يتصل بما كان عليه العرب في حلب منذ مئات السنين من هذا التراث الخالد.

هذا البطل المجاهد الصالح التقي نزع رداء الذلّ الذي كان على كثير من المسلمين من الظلم الذي وقع عليهم فنزهه عنهم وألقاه بعيداً، ودعا إلى رسالة الإسلام غضة كما كانت في عهوده الأولى ليجدد من خلال ذلك الرابطة الإسلامية، واستطاعوا معاً أن يوقظوا الحياة في كثير من جوانبها وفي كثير من بناها، وكان يجول ويصول على ظهر كهيلان فرسه ليحرر أكثر من خمسين بلدة من بلدات المسلمين من أيدي محتليها من جيوش الفرنجة والصليبيين..

     واستطاع نور الدين زنكي من خلال المدارس والمراكز العلمية التي أسسها أن يحرك عجلة النهضة والحضارة ويثير اليقظة في العالم السني وكان له الأثر الأكبر في إحيائها من جديد..

     اسمه محمد نور الدين الذي زيّن شخصيته بالجد والاجتهاد والدأب والذي كان يرجو ويعمل أن يتوّج ذلك بالشهادة في سبيل الله، الذي فضل أن يقوم وينهض بدل أن يقضي العمر في تلك الظروف بين أهله خائفاً يترقب، فقام لينهض بتلك المدن الإسلامية ويقيمها على قدميها ليكون بذلك أحد الأبطال الذي كان مهندس الربيع الإسلامي في ذلك الزمان  ويعزّ أن يرى مثلهم في التاريخ، والذي استطاع بشجاعته ورأفته أن يحوز على إعجاب أعدائه قبل أصدقائه ، وهو الذي فتح الطريق أمام صلاح الدين الأيوبي حتى أنه أمر بصنع منبر للمسجد في القدس الشريف ففتح بذلك الباب قليلاً ليتمه من جاء بعده..

 

وقد قال عنه ابن الأثير الجزري صاحب كتاب الكامل في التاريخ والذي كان معجباً به أيما إعجاب حتى إنه ألف كتاباً خاصاً بالزنكيين، قال عنه مادحاً وذاكراّ ما يأتي: " لقد قرأت عن السلاطين والحكّام الذين عاشوا من قبل ولم أر بينهم عدا الخلفاء الراشدين الأربعة وعمر بن عبد العزيز أفضل ولا أعدل من نور الدين الزنكي".

ولقد كان نور الدين رحمه الله بما يوليه من الأهمية للنظام والإدارة الجادة، وما يبحثه عن الحلول الدائمة والحاسمة، وجعله الجهاد ضد الفرنجة الصليبيين المحتلين وجبة وواجبا يومياً، ومساواته بين الناس بعدله ونشر العلم والمعرفة، استطاع بذلك كله أن يحوز مكانة عالية في قلوب الناس ويكسب تأييدهم ومحبتهم.


     ولقد وجد من خلال ما وصلنا من وثائق أنه كان متقناً للعربية بحيث يعد من المترسلين (كتاب الرسائل)، وإلى جانب هذا كان متقناً للفارسية والرومية حسبما وصل إلينا من وثائق، وكان أول من أنشأ داراً للحديث في التاريخ، والجوامع في مدن كثيرة منها حلب وحمص وحماة والموصل وأورفه وغيرها كثير من المدن وكذلك أنشأ الكثير من المدارس والرباطات والخانقاهات..
     

وقد استشار أهل المعرفة من العرب بالطب والعلوم وأنشأ المشافي العديدة، حتى المشافي التي تعالج بعض الأمراض العقلية، فقد فكّر رحمه الله تعالى حتى في هذا.

ورغم أنه على المذهب الحنفي فقد كان يوظف الموظفين من المذاهب الأخرى، وقد اهتم بالفقهاء والمصنفين وأهل الخير من العرب بالدرجة الأولى، وافتتح الكتاتيب لتعليم الأطفال من الأولاد والبنات القراءة والكتابة، واستقدم من خراسان والأندلس المعلمات للعمل فيها.


     وكان هذا القائد العظيم يكسب قوته وقوت عياله بنفسه، فلا نجد بعد الوزير نظام الملك رحمه الله تعالى أشهر منه بقيادته الرشيدة واهتمامه بالعلم وإنشائه المؤسسات العلمية والتعليمية..
     

نور الدين الذي استلم الحكم دون أن يريق دم أحد، لم تكن معاملته الحسنة ورأفته خاصة بالعرب أو الأكراد في هذه المدينة القديمة بل يستوي في ذلك حتى اليهود من النساء والرجال والذين كانوا يساندونه ويؤيدون حكمه، وكان الشاب صلاح الدين الذين وظفه مع عمه شيركوه قد استطاع بعد ثلاث أسفار أن يصبح حاكماً على مصر، والذي أطفأ أحلام وآمال الصليبيين وجعلهم ينكفؤون ويرتدون على أعقابهم واستطاع بعد فترة وجيزة أن ينهي حكم الشيعة الفاطميين، وبذلك وضع حداً لذلك الحكم الذي كان سبب التفرقة في العالم الإسلامي والذي كان ظهيراً ومسانداً للصليبيين في المنطقة.

عندما توفي نور الدين زنكي الذي عين بمنشور الخليفة سلطاناً والذي كان جهز الأرضية اللازمة لفتح القدس كان قبل وفاته قد امتد حكمه من طرابلس الغرب إلى همذان ومن اليمن إلى سيواس، ولم يكن قائداً للعرب فقط بل لكل المسلمين كما جاء في كتاب الخليفة العباسي له، وثبت أنه كان يهدف ويرمي إلى فتح القسطنطينية.

وقد كان يؤسس لجمه هيئات من وجهاء الناس وعقلائهم وله معهم جهود كثيرة من جهات شتى، وكان له جهد مميز في نشر العلم والمعرفة والإحساس بالمسؤولية بين الناس لتكون من ميزات المجتمع المسلم، وكان يجمع حوله فضلاء وعقلاء الناس من ذوي القدر والقيمة ويدير أعماله من خلال الشورى، ولعل هذا هو السبب في أن سجل التاريخ هجرة نور الدين زنكي، وكان لصدقه وأمانته وثقة الناس به وفكره الخلّاق وخلقه الطيب قد حاز اهتمام التجار وطلاب العلم والمجاهدين ومحبو الخير وأهل الفن والصنعة فانهلوا من البلدان المجاورة بل والبعيدة من كل أطراف الدنيا ليصلوا إليه ويكونوا شركاءه في تحقيق حلمه العظيم هذا.

في الوقت الذي فقد فيه الفكر الإسلاميّ والتوحيد روحه، وانتشرت عشرات الخصومات بين الإمارات والدويلات، وانتشرت فيه الخرافة وأحاطت بالمجتمع والحياة كإحاطة نبات القرّيص، استطاع نور الدين الزنكي أن يكوّن مثالاً عابراً للزمن ومتخطياً للحدود.

كان يعرف ابن الزنكي بإسكندر الزمان ليس من قبل صلاح الدين الأيوبي فقط بل من قبل كثير من المؤلفين، فقد كان شجاعاً وذا رؤية بعيدة في الأمور، وأهمية ذلك أنه يرينا أن إنساناً شجاعاً وذا رؤية فائقة بعيدة ماذا يمكن أن ينجر ويحقق من عظائم الأمور ومعاليها.