رائد الروّاد نوري ميلليش
محمد زكريا الحمد
الشاب الذي خلد اسمه بين الأبطال الشهداء المقاومين و دوّخ فرنسا وقهر عملاءها من الخونة وهو ما يزال في بداية الشباب ولم يتجاوز الثانية والعشرين من العمر.
الحرب والانتفاض شيء يمسّ من قريب شخصية ميلليش نوري لأنه الرجل الشجاع القوي الذي يتفجر بالشباب والقوة والعنفوان، فقد جمع حوله ثلة من الشباب المقاومين كان يتنقل بسرعة البرق بين الجبهات المختلفة في مرعش
أخاف الفرنسيين كثيراً بهذه القوة المعنوية منقطعة النظير، فوضعوا مكافأة مقدارها خمسون ألف ليرة لمن يأتي برأس ميلليش نوري، ولكن لم ينجحوا في ذلك
تعتبر مقاومة مرعش للفرنسيين من حركات التحرر المميزة والتي تنضح بالقوة والكرامة والعزة، رغم أنها لا تملك من إمكانات الدفاع الشيء الكثير إلا إنها سطرت أروع صور البطولة والتضحية، وقامت بذلك من خلال مجموعة قليلة من الرجال الذين لا سلاح حقيقاً بأيديهم، أمام جيش مسلح بالدبابات والمدافع والبنادق الآلية، واستطاعت في مدة قليلة أن تطرد العدو إلى ما وراء الحدود.
’وخلال هذه المقاومة الشعبية الأسطورية لمعت أسماء كثيرة، كان لها أثر مميز في هذه المقاومة على الصعد المختلفة، وخلدت الذاكرة الشعبية والرسمية كثيراً من هؤلاء الأبطال والأبناء البررة لهذه البلاد، ومن بين تلك الأسماء الرائعة البطل ميلليش نوري
ولد الشهيد البطل ميلليش نوري في مرعش سنة 1898، والده السيد الحاج مصطفى رجب آغا، كان يتمتع بشخصية قوية وبنية جسدية متينة، حاد النظرة طويل القامة عريض الكتفين، وقوراً يحترمه من حوله رغم حداثة سنّه، وكان يقف بوجه الفساد والفاسدين وينهرهم ويحرص على الاستقامة، وكان مع ذلك طيب القلب، شجاعاً مقداماً، يساعد الضعفاء، ويعين من لا معين لهم.
وعندما وقع مرعش تحت الاحتلال وقع الناس في ضيق وحزن شديد وكاد اليأس يأخذ بنفوسهم، إلى أن أطلقت شرارة المقاومة فسارع أهل مرعش برجالهم ونسائهم، بشيبهم وشبابهم، وأخذوا بأيديهم ما وجدوا من السلاح أو ما يمكن أن يسمى سلاحاً، ورغم أنه ما زال اليوم الأول في الحرب إلا أن مرعش من كل الجهات كانت مشغولة بذلك والرصاص ينزل من السماء وكأن السماء تمطر رصاصاً.
هذا الجوّ من الحرب والانتفاض شيء يمسّ من قريب شخصية ميلليش نوري لأنه الرجل الشجاع القوي الذي يتفجر بالشباب والقوة والعنفوان، فقد جمع حوله ثلة من الشباب المقاومين كان يتنقل بسرعة البرق بين الجبهات المختلفة في مرعش.
وفي إحدى كنائس الأرمن تحصن ما يزيد على ألفي شخص من صف الأعداء ولم يعد يقوى الثوار على ضبطهم، واستطاع أن يحل البطل ميلليش نوري هذه المشكلة أيضاً مع عدد قليل من أصدقائه، حيث اعتلى ظهر المكان الذي تحصنوا به وأحدث به فتحة ثم رمى منها بعض قطع الخشب ونحوا من عشرين تنكة من الوقود وأضرم فيها النار، وهكذا وقع الأعداء المحاصرون بين نارين، نار في الداخل ونار سلاح الثوار في الخارج، وبذلك قضى على أكبر نقطة تحصن لصف العدوّ.
وكان البطل نوري يتنقل كل يوم من حي لآخر وهي يهدم الأماكن التي فيها ضرر أو التي يتوقع منها الضرر الكثير، وبذلك لم يكن يعطي الأعداء مهلة لالتقاط الأنفاس، وفي يوم من الأيام كان يمر أحد أحياء مرعش فقال له أحد وجهاء الأرمن المتعاملين مع الفرنسيين: ألست أنت الذي تحرق بيوت الخونة وأعوان الفرنسيين، إن كنت تستطيع تعال احرق هذه البيوت، فقال ميلليش نوري: غداً الساعة السابعة دوركم، وفي اليوم التالي في نفس الساعة دخل هو ومجموعة من رافقه بشكل مهيب ومفاجئ وهو يحمل في كلتا يديه سلاحاً، وبهو البيت فيه ضباط فرنسيون وصاحب البيت المتنفذ الأرمني ومجموعة ممن يتعاملون مع الفرنسيين، وهم يتناولون الطعام والنساء تسقيهم الخمر، فبدأ بإطلاق النار فقتل من قتل ونجا من ألقى بنفسه وفر هارباً.
وبعد هذه الحادثة أسكن الرعب في قلوب الأرمن الذين كانوا يعاونون الفرنسيين ويقفون بصفهم ضد الأهالي، وكذلك أخاف الفرنسيين كثيراً بهذه القوة المعنوية منقطعة النظير، فوضعوا مكافأة مقدارها خمسون ألف ليرة لمن يأتي برأس ميلليش نوري، ولكن لم ينجحوا في ذلك..
وفي أواخر أيام الحرب بينما كان في اشتباك في أحد الدور التي يشغلها عملاء الفرنسيين من بعض الأرمن والبيت يحترق، خرج من أحد الفتحات أو النوافذ أحد أولئك الخونة، وانهال برصاصه الغادر على البطل ميلليش نوري، فأصابته في بطنه وبدأ الدم ينزف غزيراً، ولكنه ظل يمشي على قدميه يحاول اللحاق بأولئك، والإجهاز عليهم ولكن بعد بضع خطوات وقع منهكاً، وغاب عن وعيه، وأغمض عينيه ولكنه لم يفتحهما بعد ذلك وذلك في شباط من عام 1920 وهو ما يزال في ميعة الصبا وشرخ الشباب لم يجاوز الثانية والعشرين من العمر.
هذا الحدث هزّ المدينة بأكملها، وأصابها بالحزن والأسى على فقد هذا البطل العظيم الذي يندر أن نرى مثله في كل وقت.
وبقيت بطولاته على كل لسان، وفي وجدان الأمة، تتناقلها الأجيال، وهي تزيد روح البطولة وشعور العزة والكرامة، وخلدوه في حكاياتهم وأشعارهم وأغانيهم.