حوار عن أدب المهجر مع البروفيسور حسين يازجي
أراي صاري جام
الأدب المهجري قد شكّل إثراء للأدب العربي الكلاسيكي، وقد حاول هذا الأدب أن يجيب على الأسئلة التي تشغل المجتمع والعالم.
ومن طبيعة الإنسان أنه عندما يجد فرصة للراحة وأخذ نفس فإنه يبدأ بالتفكير بأشياء أخرى غير البحث عما يقيم به أوده، فعندما تقلصت متاعبهم والتحديات التي تواجههم، بدؤوا الاهتمام بالأدب والشعر.
إن رواد هذ المرحلة أو بتعبير آخر إن أهم المفكرين الذين احتلوا مكانة في هذه المرحلة هم ثلاثة جبران خليل جبران (1883-1931)، ميخائيل نعيمة (1889-1988) وأمين الريحاني (1876-1940)، وبقوا في الصدارة إلى السبعينيات رغم الفروقات بينهم.
في البداية أود منكم الحديث عن بداية ظهور أدب المهجر، في أي زمن ظهرت وما هي الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي أدت إلى ظهورها?
بداية ظهور أدب المهجر كان نتيجة الصدام الذي حدث بين الدروز والمارونيين في لبنان عام 1860 والحرب الأهلية، فهاجر كثير من لبنان وسوريا والأردن وفلسطين إلى الأميركتين الجنوبية والشمالية، وكان ذلك المجتمع في المهجر والذي أكثريته من المسيحيين فالأدب الذي ولد من هذا المجتمع هو أدب المهجر، وإن الهجرة من لبنان وسوريا قد بدأت تزداد بدءاً بنهايات القرن التاسع عشر، ويقف وراء هذه الهجرة جملة من الأسباب السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ونحن نعرف أن ركوداً اقتصادياً قد أصاب الشرق الأوسط وتبعه بعد ذلك انهيار للاقتصاد، ووراء هذا الانهيار الاقتصادي بدء المنافسة من الحرير الياباني والإنجليزي والألماني للحرير السوري، فأفلست صناعة النسيج، وقلت الأراضي القابلة للزراعة، وصارت زيادة ملحوظة بالسكان، وأصاب الزراعة نكبات متتالية، مع نقص في موارد الطاقة، وهيمنة النظام الإقطاعي، كما أن فتح قناة السويس الذي أثر بشكل سلبي على التجارة أيضاً، ومن ناحية أخرى الحرب الطائفية، وخاصة بين الدروز والموارنة في لبنان، ومن بين الأسباب السياسية هو أن فرنسا كانت على الدوام التفرقة والطائفية بالإضافة إلى الجندية الإجبارية والتجنيد في الحروب ..
أستاذي بعد هذه الهجرات، متى وتحت أي ظرف بدأ هؤلاء المهاجرون الاهتمام بالأدب، وما هي أنواع النشاط الأدبي الذي عملوه، مثلاً ما هي المجلات والجمعيات أو الكتب الأولى التي تم إصدارها من هذه الآداب، أو بصيغة مختصرة ماهي الاتجاهات أو التجمعات الأدبية التي تكونت، وما هي الأغراض الأدبية لهذه التجمعات، وما هو الإنتاج الذي تمخضت عنه هذه المرحلة?
كانت الفترة الأولى التي عاشها المهاجرون مكللة بهموم البحث عن عمل أو وظيفة لتحصيل ما يقيم أودهم، ومن المعروف أن ثمة مشاكل كثيرة تصاحب الهجرة تتطلب من المهاجر أن يكافح من أجل البقاء على قيد الحياة، وفي هذا الظرف لا توجد مساحة كافية للتفكير بشيء آخر، فالأولوية في هذه المرحلة لمحاولة المهاجرين البقاء على قيد الحياة، فانخرطوا في أعمال شتى كالباعة المتجولين، ومن طبيعة الإنسان أنه عندما يجد فرصة للراحة وأخذ نفس فإنه يبدأ بالتفكير بأشياء أخرى غير البحث عما يقيم به أوده، فعندما تقلصت متاعبهم والتحديات التي تواجههم، بدؤوا الاهتمام بالأدب والشعر والنثر بفنونها، وشعروا بالحاجة إلى القيام بالنشاطات الاجتماعية أو الثقافية، وفي هذا السياق حاولوا إنشاء الجمعيات الأدبية كان أساسها بعض الصحف والمجلات، مستغلين مرونة الظروف السياسية في هذه المرحلة، فمن المهم جداً وجود تلك الصحف والمجلات من أجل نشر إنتاجهم الأدبي، ومن أوائل ما يتبادر إلى الذهن من المجلات في أمريكا كفكبو أمريكا(1892) والعصر(1894) والهدى(1898) ومرآة الغرب(1899)، والفنون ، السائح(1912) السمير(1929)، وفي البرازيل: الفيحاء(1895)، الرقيب(1892)، المناظر(1899)، السبع(1900)، العصبة(1933)، المناهل والأندلس.
هذه الصحف والمجلات اليت يصل عددها إلى 250 تقريباً، وقد اجتمعت في البدايات عدة شخصيات أدبية وبعد فرتة قصيرة كان هذا عاملاً مساعداً على ولادة جمعيات أدبية، ومن بين تلك المجلات المنشورة هنا مجلتان عن العالم العثماني مثل الجلة التي أصدرها سيف الدين الرحال (بوينس أيريس 1915)، والمجلة التي أصدرها قيس لبكي (بوينس أيريس)، هذه المجلات والصحف والأعمال هيأت الأساس لنشوء أدب المهجر فيما بعد في هذا المغتَرب، ومن بين النشاطات ذات الوجهة الأدبية التي نراها في هذه القارة رواق المعرّي، والرابطة السورية، والرابطة القلمية، والعصبة الأندلسية، رابطة مينرفا، والرابطة الأدبية، وجامعة القلم، فهذه هي الجمعيات والتجمعات التي تمثل الأدب المهجري، وكان هذا الأدب قد شكّل إثراء للأدب العربي الكلاسيكي، وقد حاول هذا الأدب أن يجيب على الأسئلة التي تشغل المجتمع والعالم، حيث إن رابطة القلم كانت تهتم بالمشاكل الإنسانية عموماً، حيث كانت تركز على محاولة إنقاذ الروح في الإنسان، فالنزعة المسيحية، والواقعية، والميل الصوفي كان مما يرصد في هذا الأدب، أما الرابطة الأندلسية فكان أغلب إنتاجها مركزً على الشعر، والرابطة القلمية كان أكثر إنتاجها هو الشعر مع وجود مساحة للنثر، وأول الآثار الأدبية في المهجر كان ديوان الشاعر قيصر معلوف(1874-1964) بعنوان تذكار المهاجر وقد نشر من قبل رواق المعري في سان بأولو عام 1905، وفيما بعد نجد في أمريكا الشمالية كما نجد في أمريكا الجنوبية كتباً كثيرة تنشر من الإنتاج الأدبي لأدباء المهجر، حيث إن جبران خليل جبران كان لم يتجاوز الثانية والعشرين بعد من العمر ومقالاته تنشر في الصحف الأدبية من أمثال المهاجر، مرآة الغرب(1899)، الهدى، ثم جمع كل هذه المقالات في كتابه الذي سماه دمعة وابتسامة.
ماهي أوائل الأسماء المهمة في أدب المهجر؟ وما أنواع الإنتاج الأدبي الذي قاموا به وما هي عناصر التجديد وما هي الموضوعات التي نجدها في أعمالهم؟ وما الذي ميز هذه الأسماء وما العوامل التي جعلتها لامعة باقية إلى يومنا هذا؟?
إن رواد هذ المرحلة أو بتعبير آخر إن أهم المفكرين الذين احتلوا مكانة في هذه المرحلة هم ثلاثة جبران خليل جبران (1883-1931)، ميخائيل نعيمة (1889-1988) وأمين الريحاني (1876-1940)، وبقوا في الصدارة إلى السبعينيات رغم الفروقات بينهم، فإنه مما لا شكّ فيه أن هذه الشخصيات الأدبية الثلاث من خلال ما قدمته من إنتاج أدبي وإسهام في الفكر قد هيؤوا الأساس والأرضية التي اعتمدت عليها الاتجاهات الأدبية في المرحلة التي تلتها.
كان جبران المعروف باسم ويليام بليك هو الشخصية الأكثر أهمية في أدب المهجر، من حيث خصائصه الشخصية، والتركيبة الأخلاقية، وآرائه ووجهة نظره إلى الحياة، والذي كان محظ النظر ومحل البحث، ففي الأدب العربي الحديث كان له مكانة مرموقة من حيث إنه جاء بلغة جديدة وأسلوب جديد، وكان بخياله الخصب وثراء لغته وثقافته العالية خير من يقيم جسراً بين الشرق والغرب، ولقد شغلته مواضيع هام، مثل الزواج، الحكام، رجال الدين، الطبقة الغنية، المرأة، رجال السياسة، الحب، العدل، وغيرها من المفاهيم والمواضيع، ومن الطبيعي أنه يجد الأدلة التي يثبت بها وجهة نظره تجاه تلك القضايا، ويبرر موقفه منها.
وكان جبران دائماً في مقدمة حركة التجديد التي وقفت ضد الاتجاه القديم ودعت إلى التخلص من الأسلوب القديم في الأدب العربي، وكان جبران دائماً يلفت النظر بأسلوبه المميز، والإبداع الخلاق، كان يلفت انتباه أولئك الذين تأرجحوا بين الأدب القديم والحديث، وإن الصراع بين الغرب التي نراها عند عبد الحق حميد كأول ما نرصده، نستطيع أن نجدها أيضاَ عند جبران بكل وضوح.
وتعتبر قصيدة المواكب من الأعمال الجديدة في الأدب العربي حيث إننا لا نجد قصيدة فلسفية بهذا الطول في الأدب العربي، وفي كتابه الأرواح المتمردة يظهر أمامنا جبران شخصاً يسعى إلى الحرية، ويناضل من أجلها، واقفاً ضد الظلم والظالمين من أجل تحقيقي الحرية، وإلى جانب الشخصية الأدبية لجبران فإنه أيضاُ فنان رسام، وخلال العامين اللذين قضاهما في باريس فإنه قرأ أعمال الكتاب الأوروبيين وخاصة الإنكليز والفرنسيين، وقرأ من ناحية أخرى جلال الدين الرومي، وقرأ بوذا(557-477ق.م) ، والعديد من المفكرين والكتاب الصينيين، ونرى أثر ذلك الفكر والثقافة المتنوعة في أعمال جبران.
ويرى جبران أن التجديد لا يمكن أن يحدث دون الاضطلاع على الحضارة الغربية، ولكن ينبغي في المشرق ألا يأخذ المشرقيون من الغرب إلا ما يناسبهم، وعلى رأيه فإن الحضارة ليست فقط هي المتعة والاتباع للآخر فقط، وهنا يقصد الحضارة الغربية، ونستطيع أن نجد آراء جبران في العديد من آثاره الأدبية، وخاصة كتاب النبيّ، فهو من أهم كتبه التي تعكس فكره، فهذا الكتاب كاد أن يكون إنجيلاً في وقت ما في أمريكا، فكان يقرأ على نطاق واسع، ومع ذلك فإن هذا الكتاب كان يستصغر من قبل البعض ولا يقبل ، كما كان حال جبران أيضاً مثل كتابه في بعض الأحيان، وخلال الستينيات من القرن العشرين احتل كتاب جبران مكانة مرموقة في الجامعات الأمريكية مثله مثل كتاب الألماني هيرمان هيس(1877-1962)، وسيدهارتا (1922-1972-1989)، الذي روى حياة بوذا بشكل غنائي جميل، فكانت هذه الكتب في مكانة عالية من الاهتمام.
ويعد ميخائيل نعيمة (1988-1988) الشخصية الثانية بعد جبران من حيث أهميته في أدب المهجر، وكان ميخايل نعيمة ذو شخصية أدبية متعددة الألوان والإنتاج، ولكنه يقول إنه يركز على مفهوم الإنسان في أدبه، من حيث المفهوم والغاية والغرض من وجوده.
وإن ميخائيل نعيمة الذي كان في البداية قد برع في الشعر والنقد والقصة والرواية قد أضاف لا حقاً المسرح والرسم إلى اهتماماته بتأثير من جبران خليل جبران، وإن ميخائيل نعيمة الذي كان يعمل في كل المجالات الأدبية، نجد أن مجموعته القصصية (كان ما كان) والتي كتبها في وقت كان الصراع على أشده، وقد كانت من أول الأعمال التي انطلقت من الواقعية في القصة العربية الحديثة. وهو يلفت النظر من خلال تحليله العميق من الجانب النفسي لشخصياته، حيث إن تعايشه مع الأدب الروسي في سن مبكرة قد أثر فيه من هذه الناحية، لا يسما وأنه قد اتخذ غوغول مثالاً يحتذيه، فأثرى ذلك إنتاجه الأدبي، وقد تمكن من خلال هذا أن ينقل القصة العربية إلى مكانة أفضل.
حقق ميخائيل نعيمة من خلال عمله (الأبناء والآباء) والذي يمكن عده أول عمل مسرحي عربي لأدب المهجر، والذي عبد الطريق لمن بعده من حيث حل المشاكل في اللغة المستخدمة لكتابة المسرح، ففي هذا العمل نجد الصراع بين الجيلين القديم والجديد، ومن المواضيع التي تناولها العمل الصراع مع الطبقة الاقطاعية والقمع الديني، ويتعبر عمله الغربال بالإضافة إلى عمله الآخر الغربال الجديد من أهم الأثار النقدية لنعيمة، ويمكن أن نلحظ تأثير جبران في مواطن متعددة من إنتاجات نعيمة، ففي كتابه المرداد الذي ترجم إلى التركية باسم (قنداقتا كي أرميش) يعني النبي في المهد، يمكن أن نرى بين سطوره جبران بين الفينة والفينة، وبمعنى آخر يمكن عد العمل إصدار آخر لكتاب النبي لجبران، والبعض يشببه بكتاب أمين الريحاني حياة خالد أيضاً، ويولي ميخائيل نعيمة أهمية خاصة لمفهوم الإنسان، ويرى أن وظيفة الإنسان الأهم هي المعرفة، معرفة الذات، ويتعمق في هذا الثراء الموجود في النفس الإنسانية، ويرى أن المال، والشهرة والموقع الاجتماعي وحيازة إعجاب الآخرين، لا قيمة حقيقية لها في إسعاد الإنسان، والإنسان طالما أنه محبوب فإنه يكون سعيداً وغنياً بنفس الوقت، وكان المذهب الطبيعي يلازم فكرة من سنوات صغره، فالفناء في الله والطبيعة هي فلسفة نعيمة.
ويرى آخرون أن أحد أهم شخصيات المهجر هو أمين الريحاني(1876-1940) الذي كتب باللغتين العربية والإنكليزية، وهو يعرف نسبة إلى مسقط رأسه بالفيلسوف فراقيا، ومن أسباب شهرته بالفيلسوف هو اهتمامه الكثير بالفلسفة، ونرى أثر ذلك في كتابه حياة خالد حيث نرى فكره وفلسفته بشكل واضح، ويرى البعض أن المصدر الخفي الذي استقى منه جبران كتابه النبي هو أمين الريحاني، وللريحاني شخصية أدبية مختلفة عن الشخصيات الأدبية الأخرى في المهجر، ورغم أنه عاش نفس الظروف التي عاشها نظراؤه من أدباء المهجر فإنه كان مختلفاً عنهم، حيث كان رجل السياسة، ورجل الإصلاح، والمربي، والرحالة، والمؤرخ، والفيلسوف، والكاتب المسرحي، والشاعر، والناقد، وعالم الاجتماع أيضاً، لم يكن عند أديب الريحاني المواضيع التي تناولها أدباء المهجر الآخرون كالشوق إلى البلاد، والشكوى، والتخلص من مشكلات العيش، وإنما كان صاحب أدب واقعي واجتماعي، وهناك أدب ملتزم يعلي مفهوم الوطن ويمجده في أعماله، فكان أكبر همه أن يتحرر الوطن العربي والشعب العربي، وبينما كان أمين الريحاني يركز على تحرر الشعب العربي والعالم، كان جبران يتوق إلى عالم روحي آخر، فهو يشعر بالوحدة في هذا العالم، وروحه تهفو نحو عالم روحي آخر.
عاش الريحاني بكامل ذاتيته في هذا العالم ولم يفعل مثل أبي ماضي صاحب القصيدة المشهورة التي يقول فيها" لا أدري من أين جئت ولكني أتيت" وإلى أين أذهب، فهو لم يحفل بهذا السؤال، ومن أهم الأمور التي تلفت الانتباه في أعمال الريحاني هو تركيزه على مفهوم الحرية في أعماله الأدبية، ومن الأمور التي يركز عليها أمين الريحاني أيضاً هو التسامح الديني، والذي سبب غيابه عبر التاريخ بأحداث أليمة، ويرى الريحاني أن التسامح والصبر والحب يمنعان الصراع والصدام بين الطبقات، وله كلمة مهمة اشتهرت عنه وهي قوله" نحن السوريين سنشن حروباً دموية ضد بعضنا إن أتيحت لنا الفرصة ولكن الدولة العثمانية تحول دون ذلك.