الكلمات والقطارات
نعيمة أركوفان


عندما ينتج الشباب الأنواع الأدبية لا بد لهم من إحكام وإتقان اللغتين كليهما، وهم على الأقل جيل يمثل الإتقان في اللغتين

العمال الأوائل الذين تركوا بلادهم إلى هجرة مجهولة، سلموا أنفسهم لمنظومة قوية لا تقبل أي معذرة من اللاجئين

الأجيال التالية لم يمتلؤوا بالحنين إلى الوطن، ولم يعيشوا اللهاث للعودة إلى وطن عاشوا فيه برهةً وتركوا أحبابهم

كانوا قبل ستين سنة عندما يستقلون القطارات كانوا يصطحبون زادهم وأحلامهم فقط، وإنهم ولو كانوا يتبعون الحمل الأول إلا أنه لم يكن هناك من يستطيع أن يقف عائقاً أمام الثاني، كانت الآفاق ممتدة والوديان سحيقة لا حوافّ حادة ولا جروف خطيرة لها، والشمس تهمس بالأمل، وكانوا ولو أنهم يسمعون بالفرح إلا أن الحزن كان ما يزال قوياً، وكان هذا الحزن يخرجهم في طريق طويلة مع الصمت، وكان هذا الصمت يرهن الكلمات لفترة ما بين الحقائب التي في أعلى العربة، وعندما يأتي الوقت المناسب ستخرج تلك الكلمات حيناً في رسالة وأحياناً بشكل أغنية يترنم بها.

ولو لم يتصارحوا فيما بينهم فإن بين كل واحد من الذاهبين والمكان الضي يذهب إليه حزمة من الأحلام، إلى بلد جميل، إلى مدائن يسيطر فيها القانون ويحوطها الانتظام، ومعاشات عالية تؤدّى في وقتها دونما أي تأخير، كانت وجوههم تطفح بالبشر أثناء التفكير في هذه الأحلام ولكن سرعان ما كانوا ينكفئون ويحاولون إخفاء هذه الحال من الفرح خشية أن يراهم أحدٌ فيفطن إلى أنهم سعداء، وكما يتبعثر الفرح فإن ما تحملوه من المسؤوليات يعود للظهور أمام أعينهم، وما هو مطلوب منهم لوالديهم ولأزواجهم وأولادهم، أعمامهم وأخوالهم، للجيران ولمختار الحي، كان تحمل المسؤولية تجاه هؤلاء يقضي على آخر قرش من راتبهم الذي لم يصل إلى أيديهم بعد.

العمال الأوائل الذين تركوا بلادهم إلى هجرة مجهولة، سلموا أنفسهم لمنظومة قوية لا تقبل أي معذرة ولا تستحسنها من اللاجئين، عملوا بدون توقف، لقد عملوا حتى في الأوقات التي كانت مخصصة لهم لكي يرتاحوا فيها، كانوا في مرحلة الشباب والقوة، والأهم من ذلك كلّه أنهم كانوا الأمل الوحيد لكثير من الناس الذين تركوهم خلفهم، كان في نيتهم أنّهم بعد أن يعملوا فترة كافية ويكسبوا ما يمكن لهم أن يعيشوا بقية حياتهم في سعة ويعودوا إلى أوطانهم ولو كان هناك بعض النواقص والعيوب، ولكنّ شيئاً من هذا لن يحدث.

الأمكنة كالعادات تستحوذ على النّاس بمرور الوقت، وأعمال أولئك المهاجرين لا تكاد تنتهي في مدّة محدودة، ومع كثرة أعمالهم تكثر المراسيل التي تأتي إليهم من بلادهم، تبدأ بالسلام والدعاء ثم تبدأ بعدّ الاحتياجات واحداً واحداً، ويزداد الشوق مع مرور الزمن، يبدأ المهاجرون بجلب أولادهم وأزواجهم إلى البلاد التي هاجروا إليها، لكي يتحملوا أعباء الغربة والوحدة سوية، ولكي يحافظوا على أمل العودة إلى الوطن جديداً فتياً في قلوبهم، ولكن شيئاً من ذلك لن يحدث.

وجاء عليهم زمان بدؤوا يحسون بأنهم جزء من البلدين معاً(بلد المهجر والموطن الأصلي)، والأكثر من هذا أنهم بدؤوا يتعلمون اللغة سواء بشكل جيد أو مستوى سيء ولكنهم بدؤوا، وبدؤوا يسجلون أولادهم في المدارس، هؤلاء الأطفال الذين كان آباؤهم وأجدادهم يحاولون من خلال العدد النزر من الكلمات أن يسيروا أمورهم بين العمال وفي الأماكن التي يعملون فيها، لم يبق الأطفال عند مستوى تعلم اللغة في تلك البلاد، بل اكتشفوا أنهم لس من الضروري أن يشاركوا آباءهم في قدرهم بل أدركوا أنهم بعد إتمام تعليمهم يمكنهم أن يختاروا مسالك وحرفاً وتخصصات غير تخصصات أهليهم، ولأنهم لا يتذكرون وطنهم الأصلي جيداً فإن وجدانهم تحرر من أعباء الحزن والشوق الدفين والتعلق بالوطن وكان نظرهم معلقاً بالمستقبل، ولم يكونوا مجبرين على تحمل ثقل المراسيل التي تأتي من الوطن محملة بالاحتياجات من أقاربهم.

آباؤهم وبنسبة كبيرة لم يكونوا من النوع الذي أتمّ تعليمه، بل أكثرهم من النوع الذي ما غادر قريته إلى أن فتحت له أبواب الهجرة، ولذلك لم يكونوا من الرجال الذين لهم طموحات كبيرة أو أهداف عالية، هؤلاء من النوع الذي يتمتع بالقناعة في الحياة، ويعرفون شيئاً آخر أيضاً وهو العمل ما دامت فيهم قوة، ولقد رأيت هذه الخاصية في كل الآباء الذين في الغربة من حولي، ونظام العمل لم يكن يعرف الصحة من المرض ولا الظروف الجوية القاسية ولا الأعياد، ولا زال في ذاكرتي عندما أتذكر الغربة صورة رجل تدلت يداه من التعب وطول الكدّ، وليست هذه الصورة الذهنية النمطية خاصة بي بل هي ذاكرة جيل بحاله.

ويوماً ما فهم هذا الجيل أن هذا الجيل ليسوا مجبرين أن يعيشوا مشاكل وظروف آبائهم، وأنهم بقوتهم يمكن أن يعملوا في مجالات أخرى،  وقد قرروا في البلد الذي جاؤوه ضيوفاً بعد تعلمهم اللغة كما لو كانت لسانهم الأصلي أن يشقوا طريقهم من خلال التعلم في ميادين جديدة، وقد طووا مصطلح "الضيف" كما تطوى مسودة ورقة وتطرح جانباً، لأنهم لم يكن في نيتهم الذهاب إلى أي مكان آخر، ومع ارتقائهم الصفوف واحداً تلو الآخر كانت أهدافهم تعلو وترتفع طموحاتهم، وبعد مدة من الزمن أدار أبناء المهاجرين ظهرهم لمل الأعمال الشاقة التي كانوا يقومون بها، وأخيرا ًعندما يقال أتراك فلا يعني ذلك أعمال الإنشاءات والبناء أو عمال المناجم، أو عمال المصانع، أو العمل في القنوات المائية وما يشبهها، وكما أنهم يتحدثون اللغة كأبنائها فكذلك يجب أن يحصلوا على فرص متكافئة.

ولكن الطريق التي يسيرون بها ما زالت وعرة، وكل رائد يشق الطريق التي يسلكها إلى الأفق لأول مرة لم تُسلكْ من قبله، وما عايشه كانت على غير مثال سبق فلم يعش أحدٌ قبله ما لاقاه في الطريق، ولو كان بقطع الأشجار التي تعترض الطريق أو بتنحية الصخور منه إلا أنه طريق لم يكتشفه الفن إلى ذلك الحين، لأن الفن يتطلب إنساناً تحررت روحه من ثقل هموم الحياة اليومية.

وتمضي سنوات وينجح البعض بالعودة إلى الوطن ولكن الجيل الثاني والثالث والرابع لم يعد لديهم الاستعداد لحمل أحلام وطموحات آبائهم وأمهاتهم، إنهم لم يمتلؤوا بالحنين إلى الوطن، ولم يعيشوا اللهاث للعودة إلى الوطن الذي عاشوا فيه برهةً وتركوا فيه أحبابهم، واعتبروا أنفسهم أنهم أولاد هذين البلدين كليهما، واكتشفوا أنهم يمكن أن يعيشوا في أي البلدين شاؤوا وأنهم ليسوا مجبرين على أن يعيشوا عاطفة الشوق الخانق للوطن الذي عاشه آباؤهم وأمهاتهم، وهذا في الحقيقة جعلهم أكثر قوة من الأجيال التي سبقتهم، وبتخطي العقبات أمام التعلُّم استطاعوا أن يروا القمة، وأخيراً جاء الوقت للاهتمام بالفنّ.

والجيل الأول الذي ذهب إلى الغربة لا شكّ أنه تلقّى نوعاً ما من التعليم، ولا شكّ أن هذا الجيل له أثر وما زال يرفد بالإنتاج والأعمال ولكنه صوت مفرد يعبر عن كل واحد بعينه، وأسماؤهم ولو أنها لمعت بين أدب المهاجرين إلا أنها كانت تحاول الحافظ على هذا الصوت الجديد والتمسك به، من دواعي السرور أن نعرف أن هناك جيلاً من الشباب يقوي اتجاه أدب اللجوء ولكن ثمة مسألة مهمة يجب حلها وتجاوزها.

عندما ينتج الشباب الأنواع الأدبية لا بد لهم من إحكام وإتقان اللغتين كليهما، وهم على الأقل جيل يمثل الإتقان في اللغتين، ما عايشوه لا مثيل له، وثقافتهم جديدة، وخلفيتهم عالمية، وبالمختصر فهم يشكلون ما يريده الأدب أو ما يحبه من نسل يعيش على هذه البقعة الخصبة من الأرض.

ورغم أني قد مضى على عودتي سنوات من الغربة إلا أن جانباً فيّ ما يزال يحس بالغربة، ولذلك فإن ما يفعله الشباب هناك في الغربة وكل خطوة يخطونها ما زالت تحمل الأهمية العالية بالنسبة لي، فكل ما عاشوه وما استفادوه من الثقافة الأجنبية والثراء الثقافي الذي حصلوه يجب أن يسجّل، وهو تأريخ أدبي لتلك الحوادث.

وأن يقبلوا أن تكون حياتهم عادية خطأ كبير، وخارطة الطريق في حياتهم لا تختلف كثيراً عن الشبان الذين يعيشون في وطنهم الأصلي.

-لغة تركية جيدة.

-إتقان اللغة في البلد التي يعيشونها.

-أن يكون هناك خلفية من القراءة الأدبية.

-الاعتياد على متابعة جيدة.

-القدرة والموهبة على تصوير الأحوال والصور بالكلمات.

-فهذه خطوات مهمة يجب أن يؤسس عليها الوعي لما يصادفنا في طريقنا من الأحداث.

وفي النهاية يمكنني القول إن أدب الغربة أو المهجر موجود نوعاً ما وأقول نوعاً ما لأنه ليس الصوت الذي يمثل جميع الموجودين هناك في الاغتراب، وإن ما أنتظره من الجيل الثاني والثالث كبير، فالشباب يعرفون الجوانب الثقافية في تلكم البلاد جيداً، وإن علاقتهم بوطنهم الأصلي آكد وأقوى، وهم قادرون على إنشاء توليفة قوية من هذه العلاقات،  وإن رئاسة تجمع الأتراك والأقارب خارج تركيا التي أنجزت أعمالاً مميزة في السنوات الأخيرة بدأت تكشف عن تلك المواهب الشابة وإنتاجها، وبدأت تلعب دوراً رائداً في دعمهم، فأصبح القرب من تلك المؤسسة أو التجمع مسألة مهمة جداً في حياتهم.

فالراحلون أسسوا لموقف أدبي، وأنا أنتظر هزات ارتدادية أقوى وأصواتاً أوضح في الإنتاج الأدبي لهم، وعندما ألتفت إلى أصوات أولئك المهاجرين أجدني واحداً منهم، ما تم معايشته هناك كان منقطع النظير وما عايشه أولئك المهاجرون كان أيضاً متميزاً ومتفرداً، كان التقاء مع مجتمع جديد ومنظومة حياتية جديدة، لم يكن ما عايشته من الحوادث بسيطاً، وكان عددنا على عكس المغتربين قليلاً، وعلى خلاف ذلك كان أول أثر أدبي هو "كانت الحادثة في برلين" أول الإنتاجات الأدبية أهدي إلي، وننتظر الإنتاجات الجديدة التي تكمل المسيرة.

نحن هنا أو في مكان بعيد، كلماتنا موجودة، وتجاربنا حاضرة، كلنا نتاج غربة، فالدنيا هي دار غربة كبيرة، ويوماً ما سنركب القطار لنذهب إلى ديار بعيدة دون أمل في العودة، ولكنّ كلماتنا ستبقى موجودة، وفي حال غيابنا ستبقى تلك الكلمات تتكلم باسمنا.