فؤاد الموسيقا التركية؛ شريف محي الدين تارغان
زينب شاهين
30 أكتوبر 1981
توقفت الحرب بكل الجبهات بعد اتفاقية هدنة موندروس. قامت القوات العثمانية بجمع أسلحتها وعتادها ومرفقاتها بعد أن بدأت بالنقل إلى الأناضول، تاركة خلفها آلاف من قبور الشهداء المجهولين.
هناك ظرف مختلف في المدينة فقط. قامت القوات في المدينة برفض الاستلام والانسحاب من المنطقة بالرغم من إعطاء الأمر. وكان عبدالله ابن الشريف حسين مغتماً جداً عندما حاصر المدينة. غير أن موقف فخر الدين باشا الذي كان على رأس القوات العثمانية والملقب بـ "أسد الصحراء" واضح وضوح الشمس؛ "لن أتخلى عن موقع النبي صلى الله عليه وسلم ولن أتركه ليحميه الحرامية والانكليز."
ومن خلال هذه الكلمات التي قالها فخر الدين باشا، تم البدء بالدفاع عن المدينة المنورة, وقد اعتبرت ثالث ملحمة مقاومة كبرى بعد انتصار جناق قلعة وكوت العمارة في الحرب العالمية الأولى. حينما نجا الجنود من أكل الجراد رغم المرض والمجاعة في بعض الأحيان، وفي أكثر اللحظات المفجعة في تاريخنا الحديث، التي قد امتدت لعامين و7 شهور، كان هناك محارب بجانب فخر الدين باشا كان قد حارب معه ضد الإنكليز حتى أخر رمق.
آخر أمراء مكة من العثمانيين الشريف علي حيدر باشا. أي، والد الشريف محي الدين تارغان. وعلى الرغم من أن علي حيدر باشا ابن عم الشريف حسين، وعلى الرغم من جميع الأضرار المادية التي سيتحملها، لكنه لم يقبل المشاركة بالعصيان والانضمام إلى الانكليز.
كان الشريف محي الدين تاراغان من أحفاد النبي صلى الله عليه وسلم السابع والثلاثين، ابن أبيه. ولد في تشامليجا سنة 1892 وقد بدأ بالاهتمام بالموسيقا منذ أن كان صغيراً. كان يعزف على العود حتى وقت صلاة الفجر في بيتهم في تشامليجا بعد أن يذهب الجميع للنوم.
لم يتوقف عن العزف بالرغم من تدهور وضعه الصحي في عمر الثالثة عشر، فقد كان يحب الموسيقا لهذه الدرجية. من جهة، داوم في الدروس الخاصة من قبل أساتذة مثل زكائي دادا زاده أحمد، وعلي رفعت، ورؤوف ياكتا بك، ومن جهة أخرى، اتقن العزف لدرجة أن وصل إلى أن يستطيع إحياء حفلات لكبار الشخصيات في الوقت التي جاؤوا فيها إلى بيوتهم.
تخرج الشريف محي الدين تاراغان، عندما تم إعلان النظام الدستوري الثاني في سنة 1908، وكان قد التحق بدار الفنون وكلية الحقوق وكلية الآداب، بعد ذلك بسنة بدرجة مرتفعة من كليهما.
ومثلما حدث مع آلاف العائلات، أحدثت الحرب العالمية الأولى تغييرات كبيرة جداً في حياتهم. ومن أجل مهمة في غاية الأهمية كان يجب تعيين والده الشريف علي حيدر باشا في إمارة مكة في 29 أكتوبر 1916. فهي مهمة شريفة وصعبة للغاية في نفس الوقت.
كان فؤاد يحرس العالم الإسلامي في أوج الحرب. وبهذا الشكل بدأت رحلة الشريف محي الدين تاراغان في تلك السنة إلى دمشق والحجاز مع والده، وحينها كان يبلغ من العمر 24 عاماً.
ستترك الرحلة إلى دمشق والحجاز آثاراً لا تُنسى بحياة الشريف محي الدين تاراغان. فهو حينها كان من أواخر أبناء الإمبراطورية التي كانت تنسحب من الساحة التاريخية، وكان يحمل كل أوجاعها. أما والده فدفع ثمن عدم نجاحه بالتعاون مع الإنكليز عبر تعرضه لانهيار مادي ثقيل. لذا قرر الشريف محي الدين تارغان الذي لم يرد أن يبقى عبئاً على أبيه الذهاب إلى أمريكا سنة 1924 لاستكمال تعلميه هناك لمدة من الزمن.
وهناك وصلت أخبار عن نجاحه بالتعاون مع عازف الكمان الإيطالي الشهير باغانيني، بعد مغادرته فقط بأربعة أشهر فقط لأمريكا. وهكذا نال الشريف محي الدين تارغان شهرة كبيرة في الحفلات الموسيقية التي قدمها في مدن مختلفة مثل بوسطن وديترويت، حتى أصبح موضوعًا للصحف الأمريكية المرموقة مثل نيويورك تايمز ونيويورك هيرالد تريبيون وصاندي تلغراف وميوزيكال أمريكا.
في سنة 1932 رجع شريف محي الدين تارغان إلى تركيا، بعد أن قضى السنوات الأولى من عمر الجمهورية بعيدًا عن وطنه، بسبب المشكلة الصحية التي كان يعاني منها، وكان متكدراً لأن الجمهورية الشابة قامت بوضع الموسيقى التركية الكلاسيكية وراء ظهرها.
استعاد صحته بعد زمن من العلاج، لكن لم تكن تُعرض عليه أي مهمة تناسب مهارته. لذا، رحل إلى بغداد من خلال دعوة خاصة وصلته من العراق، وقام بتأسيس معهد بغداد الموسيقي، ودشّن أقساماً للموسيقى الشرقية والغربية، وبدأ بتدريس العزف على آلة العود والكمان. مكث هناك لفترة 12 سنة، وكان له قدر وقيمة خاصة في أفئدة طلابه العراقيين في بغداد. وحين رجع إلى اسطنبول، ارتبط بصفية آيلة التي كانت تعتبر إحدى أرفع الأصوات النسائية في عالم الموسيقا التركية.
شغل الشريف محي الدين تاراغان منصب رئيس اللجنة العلمية لفترة سنتين في كونسرفتوار اسطنبول، وكرّس ذاته بشكل كامل لبقاء الموسيقى التركية بصفته حفيد الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد وقع على أعمال لا تعد ولا تحصى، ولم يأخذ مكانه في أي فعالية سوى تلك التي اخذت منها بعض الجمعيات الخيرية.
واليوم نخلّد ذكرى الاسم العظيم للموسيقي التركي الأستاذ الشريف محي الدين تاراغان الذي توفي سنة 1967.